بسم الله الرحمن الرحيم
يكثر هذه الأيام الكلام في المولد النبوي بين المجيز له والمانع ولا تعدو القضية أن تكون من باب المغالبة بين الطرفين بالحجج والدلائل بعيداً عن التشنج في الطرح والأسلوب بل لا بد من تجرد وإخلاص لله تعالى وطلب للحق والله يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه،
وقد كتبت هذا المبحث المختصر راجياً أن أكون قد وفقت للصواب فأقول وبالله التوفيق:
تعريف المولد:
المولد معناه اللغوي : وقت الولادة أو مكانها .
وأما في اصطلاح الأئمة فهو : اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن الكريم ورواية الأخبار الواردة في ولادة نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء ومدحهم بأفعالهم وأقوالهم . (إعانة الطالبين 3/361)
قال الحافظ السيوطي في الحاوي للفتاوى 2528 : "إن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما وقع في مولده من الآيات ... هو من البدع التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف" .
وقال الإمام شهاب الدين المعروف بأبي شامة الشافعي رحمه الله في كتابه الباحث على إنكار البدع والحوادث ص23 : "ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق من مولده صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور ، فإن ذلك – مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء – مشعر بمحبته صلى الله عليه وآله وسلم ، وتعظيمه في قلب فاعل ذلك ، وشكرا لله تعالى على ما من به من إيجاد رسوله ، الذي أرسله رحمة للعالمين صلى الله عليه وآله وسلم" .
تحديد يوم المولد:
اختلف العلماء والمؤرخون رحمهم الله تعالى في تحديد مولده الشريف صلى الله عليه وسلم بعد اتفاقهم على أنه كان في شهر ربيع الأول إلا من شذ وقال بخلافه ، إلا أن الخلاف انحصر في تحديد اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم على النحو التالي:
القول الأول :قيل لثمان مضت من ربيع وإليه ذهب ابن دحية والحميدي وشيخه ابن حزم، قال ابن دحية: وهو الذي لا يصح غيره وعليه أجمع أهل التاريخ، و قال الحافظ القسطلاني: وهو اختيار أكثر أهل الحديث.
القول الثاني :ولد لعشر ليال مضت من ربيع الحافظ الدمياطي ـ وصححه ـ .
القول الثالث :قيل لليلتين خلتا من ربيع وبه جزم ابن عبد البر.
إلى غير ذلك من الأقوال و هذه بعض الأقوال؛ ولكن الذي استقر عليه الجمهور واعتمدوه وعملوا به إلى يومنا هذا هو لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوَّل عام الفيل . وإليك تأكيد "بعض" الأئمَّة المُعتمدين لهذا:
قال الحافظ الكبير صاحب التصانيف العظيمة في الحديث والرجال أبو الحاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي رحمه الله في كتابه(كتاب السيرة النبوية وأخبار الخلفاء ) ص7 مانصه:
[ قال أبو حاتم : ولد النبي صلى الله عليه و سلم عام الفيل يوم الإثنين لاثنتي عشرة
ليلة مضت من شهر ربيع الأول" انتهى
* وقال الإمام الحافظ ابن سيد الناس رحمه الله في كتابه (عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير) ج1ص38 ما نصه:
" وولد سيدنا ونبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الاول عام الفيل قيل بعد الفيل بخمسين يوما]. انتهى
*وقال الإمام السهيلي رحمه الله في كتابه( الروض الأنف ) ج1 ص300 ما نصه: [ ـ ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: قال حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال:ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل .
والذي يظهر هنا أن الإمام السهيلي رحمه الله يُرجّح ما قاله ابن إسحاق رحمه لذكره له دون معارضة أو ذكر لمعارض.
وقال الإمام محمد بن يوسف الصالحي رحمه الله في كتابه
[سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ج1 ص334 ـ 336 ] ما نصه:
قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: لاثنتي عشرة ليلة خلت منه ـ أي من ربيع الأول ـ ورواه ابن أبي شيبة في المصنف عن جابر وابن عباس. قال في الغرر: وهو الذي عليه العمل]. انتهى
والذي يظهر هنا أن الإمام الصالحي رحمه الله يُرجّح ما قاله ابن إسحاق رحمه الله؛ إذ أنه ذكر قولَه أولاً ثم نقل قول صاحب ( الغرر ) الذي يقول: وهو الذي عليه العمل؛ وكأنه أراد تأكيد ما ذهب إليه ابن إسحاق وترجّح له. فتأمَّل
وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه [لطائف المعارف ص137 ] بعد ذكره إختلاف الأقوال ما نصه:
"والمشهور الذي عليه الجمهور أنه ولد يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، وهو قول ابن إسحاق وغيره"انتهى
*وقال الإمام الفقيه أبي زكريا عماد الدين العامري رحمه الله المتوفى سنة893هـ في كتابه :بهجة المحافل وبُغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل )ج1ص51 بعد ذكره إختلاف الأقوال ما نصه:
[واتفقوا على أنه صلى الله عليه وآله وسلّم ولد يوم الإثنين. قال الأكثرون: في شهر ربيع الأول...، وقيل لثنتي عشرة وهو أشهرها .... ].
*وقال الإمام علي بن برهان الدين الحلبي رحمه الله في سيرته( السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون؛ المُسمى بـ" إنسان العيون " ) ج1ص93 قبل ذكر الخلاف وترجيحه ما نصه:
[ وذكر الزبير بن بكار والحافظ ابن عساكر ... وعن سعيد بن المسيب "ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إبهار النهار } أي وسطه { وكان ذلك اليوم لمضي اثنى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول } أي وكان ذلك في فصل الربيع ... قال: وحكى الإجماع عليه وعليه العمل الآن، أي في الأمصار خصوصاً أهل مكة في زيارتهم موضع مولده صلى الله عليه وسلم..] انتهى
*قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه [السيرة النبويةج1ص304] ما نصه عن جابر وابن عباس أنهما قالا : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثانى عشر من شهر ربيع الاول وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء ، وفيه هاجر وفيه مات . وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم ].
الأدلة على مشروعيته :
الأدلة من الكتاب والسنّة على مشروعيّة إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف وسنّيّته كثيرة ومنها : الدليل الأول:
( عدم وجود دليل على التحريم، والأصل الإباحة إن لم يدل الدليل على غيرها )، كما أخبر سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسـلم في قوله:{ مـا أحل الله في كتـابه فهو حلال، ومـا حرم فهو حرام، ومـا سكت عنـه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فـإن الله لم يكن لينسى شـيئاً { وما كـان ربك نسـيا } }[ أخرجه البزار والحـاكم وغيرهما، وهو صحيح ]، والمقصود بقولـه ( أحل ): أوجب، كما هو ظـاهر. وقوله: { إن الله فـرض فرائض فلا تضيّعوهـا، وحـدّ حدوداً فلا تعتدوهـا، وحرّم أشـياء فـلا تنتهكوها، وسـكت عن أشـياء رحمة بكم من غير نسـيان فلا تبحثوا عنها }[ أخرجه الدارقطني وغيره ]، وقولـه: { مـا أمرتكم بـه فأتوا منـه مـا اسـتطعتم ، ومـا نهيتكم عنـه فاجتنبـوه }. وذلك جميعاً تأويـل قـول الله تعـالى: { ومـا آتـاكـم الرّسـول فخـذوه ومـا نهـاكم عنـه فانتهوا }؛ إذ لم يَقُـل سـبحانه: ( وما سـكت عنه أو تركه مما له مسـتند من الشّـرع يـدل عليـه ). فتنبـه لهذا فإنه مهـم جـداً.
فإحياء المولد النبوي الشريف لو لم يكن مستندُ محييه إلا عدمَ ورود النهي عن إحيائه لكفى ، فكيف وهو يسـتند على أدلة صريحة في إحيائه ـ كما ستعلم بعد هذا ـ؟
الدليل الثاني:
أن الله تعـالى أمرنـا في غير موضع من كتـابه العزيز بذكر نعمته، ثم بيّن أن من طرق ذكر تلك النعم: ( إحياء مناسباتها بالتحدّث بها والشكر عليها )؛ فقال الله تعـالى: { وَإِذْ قَـالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ؛ إِذْ أَنْجَـاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَـاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ }[ ابراهيم: 6 ]، مبيّناً: أن المطالبة بذكر النعمة يكونُ بشكر الله تعـالى عليها، الذي منه: التحدّث بها، كما قال سبحانه: { وأما بنعمة ربك فحدّث }[ الضحى: 11 ]، وأن ذلك آكد مـا يكون عند حلول موسمها: كما بينه سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسـلم بسنّهِ صوم ذلك اليـوم الـذي هو يوم عاشـوراء، بعد أن علم أن اليهود تصومه لذلك؛ إذ الخطاب فيـه للمؤمنين، وهم أمة واحدة وإن اختلفت شـرائعهم. ومِن هـذا أيضاً: قـول الله تعالى: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَـذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْـهِ وَتَقُولُوا: سُـبْحَانَ الَّذِي سَـخَّرَ لَنَـا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ }[ الزخرف: 13 ]، وهو واضح في المطالبة بالذكر عنـد مباشـرة النعمة كلما تكررت، وبـه مـع الـذي قبله يقوى الدليـل ويزيد، عند من كان لـه قلب أو ألقى السّـمع وهـو شـهيد.
والدليل الثالث،
وهو صريح: سَنُّ سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إحياء ذكرى مولده الشريف. كما في الحديث الصحيح: أنه سئل عن سبب صيامه يوم الاثنين؟ فقال: { ذاك يوم ولدت فيه }[ أخرجه البخاري وغيره ]. فنحن إذ نفرح بيوم مولده من كل عام في غاية التقصير بين يدي ما سنّه هو صلى الله عليه وسلم. ولولا ما مرّ في الدليل الأول وما سنذكره في الدليل الرابع من الاعتداد بمثل ذلك لاستحققنا التعنيف على هذا التقصير. ومع ذلك: فكره بعض أهل العلم أن يُفوّت المسلم شـكر الله تعالى في كل يوم اثنين على المولد الشريف.
ولله در الحافظ ابن رجب الحنبلي حيث قال في هذا المعنى:" فيه إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله على عباده ، فإن أعظم نعم الله على هذه الأمة إظهار محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته وإرساله إليهم ، كما قال تعالى (( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم)) (آل عمران:164) ، فصيام يوم تجددت فيه هذه النعمة من الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين حسن جميل ، وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر" انتهى." لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" (ص98) .
والدليل الرابع،
وهو مـع الثاني متحد ومتداخل: سَنّ سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسـلم إحياء ذكرى نجاة سـيدنا موسى عليه السـلام ومن تبعه يوم عاشوراء من كل عـام وهو يبين صحّة إحيـاء المناسـبات السنويّة. بل إن مـا ورد في فضـل هذا اليـوم والترغيب في إحيائه بمظاهر الشـكر من الصيـام والتوسعة على العيال لأدلّ دليـل على تفضيل الله تعـالى للأيام التي يفيض فيها الخير والإنعام والندب لإحيـاء ذكراهـا. وإذا كان ذلك كذلك، وكان بلا منازع يوم مولد سـيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من تلك الأيـام، بل على رأسـها، كان الداعي أقوى لإحياء يوم مولده والفرح بـه سـيّما والله تعـالى يقول: { قـل: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا }[ يونس: 58 ]، وهو الرحمة المهداة للعالمين كما قال تعـالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }[ الأنبياء: 107 ].
وقد استدل الحافظ ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، كما في فتوى له نقلها الحافظ السيوطي في "حسن المقصد في عمل المولد" فقال ما نصه : "فيستفاد منه الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة ، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة ، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم" انتهى. "الحاوي للفتاوي" (1/196).
قال الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالة "حسن المقصد": " وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن نفسه بعد النبوة ، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته ، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية ، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين ، وتشيع لأمته كما كان يصلي على نفسه ، لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات ". انتهى. "الحاوي للفتاوي" (1/196).
وقال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه : "مورد الصادي في مولد الهادي" : قد صح أن أبا لهب يخفف عنه العذاب في مثل يوم الإثنين لإعتاقه ثويبة سرورا بميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أنشد :
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه == وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الإثنين دائما == يخفف عنه بالسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره == بأحمد مسرورا ومات موحدا
فإذا كان هذا الكافر الذي جاء القرآن بذمه يخفف عنه العذاب لفرحه بمولد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فما بال الذي يحتفل بذلك .
وهذا ما ذكره وقرره أيضا شيخ القراء والمحدثين الحافظ شمس الدين بن الجزري في "عرف التعريف بالمولد الشريف"
شبهات :
ويحتج بعض الناس بقوله إنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكرام ولو كان خيراً ما سبقناهم إليه :
فيقال : أما عدم فعل سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم والسلف الصّالح لعينِ ذلك!! فإنه ليس دليلا على التحريم إلا عند من جهل الأدلّة وطرق الاستدلال بها، فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه ـ وهو أحد أعيان السلف من تابعي التابعين في القرون الأولى الفاضلة ـ:" كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السّلف "اهـ
وذلك: أن ( عدم الفعل ) على ثلاثة أقسام:
1.( الانتهاء ) وهو: عدم الفعل لـوجـود النّهي.
2.( التـرك ) وهو: عدم الفعل مع وجود الطلب.
3.( السكوت ) وهو: عدم الفعل للعفـو والإباحة.
ودليل هذا التقسيم: ما تقدّم في الدّليل الأوّل، مع ما ثبت في السنن من ترك سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلّم بعض ما طلبه من أمّته وشرع له فعله، وترك الأمة لبعض ما طلبه أو فعله هو صلى الله عليه وسلم مما لم يفرضه عليها.
والذي يدل على التحريم منه: هو القسم الأول إن كان النهي للتحريم وإلا كان مكروهاً؛ يهديك لذلك أمثلةٌ كثيرة ، منها: قول جابر بن زيـد:" سـألت البحر (وكان يُسمّي سيدنا بن عباس رضي الله عنهما البحر ) عن لحوم الحُمُر؟ فقـرأ هذه الآيـة: { قل لا أجد فيما أوحي إليّ مُحرّما على طاعم يطعمه .. } إلى آخر الآيـة "اهـ، وسـيدنا ابن عباس رضي الله عنهما وجـابر بن زيد هما مَن هما من علماء السّلف الصّالح. وكون لحوم الحمر حرام لثبوت حديث فيها فليس يضعف اسـتدلالنا، بل يُقَوّيـه؛ إذ لمّا لم يسـمعا بالتحريم حملاه على مطلق الأدلـة التي تفيد مـا تقدّم من كون المسكوت عنـه ولـو مع وجود المقتضي ليس حرامـاً. فتنبه لهذا فإنـه مهم جـداً.
وقد ثبت أن عدم فعلهم لم يكن لوجود النهي، فلم يكن حجة على التحريم. بل لمّا ثبت مشروعية ذلك وسنيّته ـ كما علمت ـ لم يبق للاستدلال بعدم الفعل باقية.
ثم، إن بالغ أحد فسأل عن سبب عدم فعل السابقين لذلك!! قلنا له ـ مع أن ذلك مما لا يعنينا بعد ثبوت مشروعيّته والحث عليه، وما علمت من كون فعلهم لا يُثبت الحكم ـ: كان بين أيديهم واجبات أذهلتهم عن مثل هذه المندوبات المتوقفة على النظر والاستنباط؛ إذ كان الهمّ حينئذ جمع الشريعة من الكتاب والسنّة. ومع ذلك فلا يشك عاقل بصيام السـلف الصالح ليوم الاثنين الذي بيّن سـيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسـلم سببه. بل ربّما بناء على هذا لم يخطر ببالهم ـ فيما علِمْنَا ـ الموسم السّنوي. وهذا أقوى من الذي قبله، والله تعالى أعلم.
وأنت إذ علمت مشروعيّة إحياء المولد النبوي الشريف وسنيّته، فاعلم أن ذلك إنما يكون بالمشروع دون ما سواه، وأفضل ذلك : مـا سـنّه سيدنا رسـول الله محمد صلى الله عليه وسلم: وهو ( الصيام )؛ لسنيته بعينه، وما فيه من دوام حضور السـبب في القلب.
وإن قيل: ولكن بعض هذه الحلقات يُضمّ إليها الاجتماع على الطعام ونحوه من المباحات، وبعضها يُضمّ إليها الاختلاط والمعازف ونحوها من المحظورات؟
قلنا: أما ( المباحات ): فلا يخفى على أحدٍ جوازها، بل لا يخفى على أحـدٍ ندب التعبّد بها: بأن ينوي العبـد بها التقرّب إلى الله تعـالى؛ لأنها تنقلب بذلك من العادة إلى العِبـادة.
وأما ( المحظورات ): فيلزم تركها سيما في الموالد؛ لِما علِمت من أسـبابها. ولكنا لا نُحرّم المشروع لمحظور منفصـل عن حقيقتـه؛ لأن ذلك حكم بغيـر مـا أنزل الله تعـالى، بل نُحَذّر الناس من حضور مـا ضم المحظور من الموالد، ونمنع من إدخـال المحظورات عليها، ونأخـذ على يـد الفـاعل.
فمثال ذلك: مثال من أضاف للظهر ركعة خامسة لزيادة الطاعة أو الخشـوع الخ ـ ما قد يتذرع به مضيف المحظور إلى المولـد ـ، فهل نحظر عليه الصلاة؟!! أم نُحَذِّر مِن تقليده، ونمنعه من المحظور الذي أتى أدخـله، ونأخذ على يده إن اسـتمر في ذلك؟
والخلاصة : أن الاحتفال بالمولد الشريف مما سنه عليه الصلاة والسلام وذلك بصيامه ليوم الاثنين والتعليل بقوله:"ذلك يوم ولدت فيه" وإنما الكلام يكون في وسائل الاحتفال ومظاهره فينظر فيها فما كان مشروعاً فلا ينكر ويكون من قبيل البدعة الحسنة كالاجتماع على قراءة سيرته الشريفة والنفقة والعبادة وما كان منهياً عنه كالرقص الماجن وما يؤدي إلى الاختلاط المحرم وكشف العورات وغير ذلك فتمنع تلك المظاهر ولا يمنع المولد في أصله
والله تعالى الموفق
0 التعليقات:
إرسال تعليق
يشرفني طرح أرائكم سادتي