منتدى الحوار الاسلامي

الاثنين، 16 أغسطس 2010

كتاب التقريب بين المدارس الإسلامية ودور التصوف فيه




تقديم
بقلم سماحة الدكتور
الشيخ نوح علي سلمان القضاة
قاضي القضاة سابقاً ومفتي القوات المسلحة الأردنية الأسبق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد طلب مني الأخ الشيخ حسني الشريف حفظه الله أن أقدم لكتابه التقريب بين المدارس الإسلامية ودور التصوف فيه، وموضوع الكتاب يشغل بال المسلمين في هذه الأيام، وقد أحسن الشيخ بارك الله فيه في اختيار هذا الموضوع. وأرجو أن تكون مقدمتي مساهمة في هذا المجال.
فإن الأمة الإسلامية قد فرضت عليها التفرقة، ومزق العدو شملها فصارت فئات متصارعة تصارعاً يشغلها عن دورها المشترك وأقام الأعداء في الأمة من يستفيد من الفرقة ويعيش عليها ولذا فهو يحرص على دوامها، ولم يقف الأمر عند التمزق السياسي بل تعداه إلى التمزق الفكري، اللهم إلاّ الفرقة الناجية. وكل مسلم يعلم أن تفريق المسلمين حرام لأن الله تعالى يقول:{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، ومعلوم أن تفرق الكلمة يؤدي إلى الضياع وهذا ما حذر الله منه فقال: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، وقد ذاقت الأمة مرارة الفشل، ولذا لا يرضى أحد أن يُتهم بأنه سبب التفرّق، ويتبادل المسلمون التّهم بأسباب الفرقة، وإذا أرادت جهة أن تُذهب شعبية جهة اتهمتها بأنها سبب الفرقة.
ومن هنا رأينا من يتهم علماء المسلمين ومذاهبهم بأنهم السبب لينفروا الأمة من علماء الشريعة ويقوودها بعد ذلك بعيداً عن الإسلام، وينصبوا لهم من يفتي بغير علم فيَضِل ويُضِل. وكل منصف يعلم أن فرقة المسلمين ليست بسبب الخلافات المذهبية، فقد نحي الإسلام قسراً عن الحياة العامة وبقى سلوكاً شخصياً لمن شاء، هذه واحدة.
والثانية أن بعض البلدان الإسلامية تتمذهب بمذهب واحد وهي مختلفة سياسياً، فالمغرب العربي كله مالكي أشعري ومع ذلك هو خمس دول وبينها ما لا يخفى والدول الإسلامية كلها سنية إلا واحدة فلماذا تنقسم إلى تيارات ومحاور متصارعة؟‍‍.
إن نسبة التفرق إلى المذهب جهل بالحقيقة أو مكر وخبث، ولا يجوز أن يصدق هذه التهمة مسلم، لكن لما قصرت الألسنة عن السياسيين خوفا منهم، استطالت في أعراض المذاهب والعلماء، وليعلم الذين ينالون من العلماء أن لحومهم مسمومة، فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). رواه البخاري.
وقال الإمام الشافعي: إذا لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي، ذلك لأنهم حماة الشريعة وولاؤهم لله فقط ثم لمن أمر الله بموالاته، والذي يتتبع عثراتهم عليه أن يعلم بأن العصمة للرسل والأنبياء، وقد شاهدنا ما فعل الله بمن هتك حرمة العلماء وتجرأ عليهم. 
هذا الذي سقته يكفي لتبرئة ساحة العلماء والبحث عن سبب الفرقة عند غيرهم. عند المستفيدين من الفرقة، ومن ذلك يتبرع العلماء حرصاً على دين الأمة ببيان أن المذاهب تجمع ولا تفرق، فهي تتفق على الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وعلى الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومحبته ومحبة أهل بيته، والإيمان بعصمة القران وحجيته، وما وراء هذا من فروع.



ومذاهب أهل السنة تتفق على الأخذ من الصحابة سواء ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رأوه استنباطاً من الكتاب والسنة فمذاهب أهل السنة امتداد لمذاهب الصحابة الكرام، ولذا يتعاملون مع بقية المذاهب بمقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم" رواه البخاري. ولهذا استوعبت الدول الإسلامية السنية كل المذاهب الإسلامية حتى المخالفة لها في الفروع.
ومن المقرر عند المذاهب السنية أنه لا بأس على المفتي في أن يفتي بغير مذهبه من مذاهب السنة إذا عرف الدليل ودعت الحاجة. أما التصوف فليس مذهباً فقهياً بل هو مذاهب تربوية لأن التصوف كما عرفه الإمام الشعراني رحمه الله إذ قال: هو العمل بالعمل ولو أن العلماء عملوا بعلمهم لكفونا، لكن كيف يطبق الفقه هنا يأتي دور الشيخ المربي الصوفي الفقيه الصادق.
من قواعدهم أن على المريد أن يعبد الله تعالى عبادة صحيحة عند كل المذاهب. فالصوفي بهذا يجمع ولا يفرق ويبحث عما اتفق عليه، ونجد الطريقة الصوفية الواحدة أو قل المدرسة الصوفية الواحدة يجتمع فيها وعليها من كل المذاهب.
ولقد احسن أخي الشيخ حسني الشريف عندما بين في كتابه هذا دور التصوف في التقريب بين المذاهب، فليس المطلوب إلغاء المذاهب بل التقريب بينها، والذين أرادوا إلغاء المذاهب لم يعرفوا معنى المذاهب، وجاءوا بأقوال جديدة، ضخمت الفرقة، وكفرت من لا يجوز تكفيره، وكأنها تسعى لزيادة عدد الكفار، بينما تسعى المذاهب السنية على هدي من السنة لتكثير عدد المسلمين. 
كما أن المؤلف – حفظه الله- نبه إلى أمرين مهمين:
الأول: أن المذهب الاشعري في العقيدة هو الذي يجمع المسلمين بكل مذاهبهم تحت راية واحدة، لأن الاشاعرة ومثلهم الماتريدية لا يكفرون مسلما إلاّ بدليل قاطع، ولهذا استوجبوا غيرهم ولم يستطع ذلك غيرهم، وهي عقيدة مؤيدة بالنصوص الشرعية والبراهين العقلية.
الثاني: أن الأزهر يوم كان مرجعاً دينياً كان يحسم الخلاف، ولما ضاعت المرجعية ظلت الخلافات مستعرة متنامية، ولهذا يجب العمل على إيجاد مرجعية لأهل السنة تتوفر فيها الشروط علماً وعملاً، لتحسم الخلاف بعد أن تكسب ثقة كل المسلمين؛ فثقتهم عزيزة المنال.
 هذا وأدعوا الله تعالى أن يثيب أخي الشيخ حسني الشريف على هذا البحث وأن يأخذ بيده إلى المزيد مما فيه نفع المسلمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
                                                                     كتبه
                                           
             نوح علي سلمان


بين يدي هذا الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم القائل {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[1]، والحمد لله رب العالمين الذي يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين المبعوث بالحنيفية السمحة القائل (المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله) [2]، وعلى آله الأتقياء الطيبين الوارثين علم جدهم صلى الله عليه وسلم والذين جعل الله مودتهم وموالاتهم عنوان صحائف المؤمنين، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وتوعّد بالويل المكذبين بفضلهم والقاطعين صلته فيهم، وعلى صحابته الغرّ الميامين والنجوم المهديين الهادين، الذين جعل الله في اختلافهم رحمة لعباده ورخصاً، وعلى التابعين وأهل القرون المفضولين الذين كانت تعرض عليهم الحجة فيقبلونها، والذين قال قائلهم (كل ما قلت لكم فلم تشهد عليه عقولكم وتقبله وتره حقاً، فلا تقبلوه، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق)[3]، وعلى من اتبع أثرهم بإحسان، واهتدى بهديهم بصدق وإذعان إلى يوم الدين، وعلينا معهم بمنه وفضله وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وبعد. 
فقد فتح الله على شيخنا السيد الحسيب النسيب حسني بن الشيخ حسن بن الشيخ خير الدين بن الشيخ عبد الرحمن الشريف بتصنيف كتاب (التقريب بين المدارس الإسلامية ودور التصوّف فيه) والذي يعتبر من أوائل ما صنف في هذا الموضوع الهام وخلال هذا الظرف الخطير التي تمر به الأمة، حيث ابتليت بالفرقة والاختلاف، ومما زاد في بلائها، هذه الحملات المسعورة من تداعي الأمم عليها، تداعي الجياع إلى قصعتها، الأمر الذي حذى العلماء المخلصين والدعاة الصادقين ومنهم السيد الشيخ للدعوة إلى التقريب بين المدارس الإسلامية المختلفة، لا من خلال التنظير وأحلام اليقظة، بل ضمن منهجية تراعي الواقع الحالي للمسلمين وقابلة للتطبيق، حيث تلخصت هذه المنهجية في مبادئ أربعة ترتكز على الكتاب والسنّة، أولها: فتح باب الحوار بين مدارس الإسلام وفرقه ومذاهبه مع مراعاة آداب الحوار بين المدارس وأسسه التي ترتكز على حسن الاستماع والتماس الحق والمجادلة بالتي هي أحسن وحسن الظن بالآخر، والمبدأ الثاني: تجنب التكفير والتفسيق والاتهام بالابتداع، والثالث: إحياء ثقافة التجديد في الأمة بما في ذلك التجديد في الاجتهاد والعقيدة والأخلاق والفهم، ورابع هذه المبادئ: التركيز على نقاط الاتفاق، والتعذير عند الاختلاف.
ولعل من الجدير بالذكر هنا من باب التأسي قول أحد أئمة الإسلام العظام وهو الإمام الشافعي إذ يقول (ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق أو يسدد أو يعان ويكون له رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبال بيّن الله الحق على لساني أو لسانه)[4]، وكأنّ الإمام الشافعي يدعو إلى التجرد عن دوافع العصبية والتحرر من التقليد إلى الدليل ليعرف قطعاً أن الحق لا يعرف بالرجال، وبذلك لا يجد بدا إلا أن يسلم القول ويقر بالحجة، مقتدياً بذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإسلام يعلو و لا يعلى)[5]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (حسـن الظـن من حسن العبـادة)[6].
ومـن باب الدلالة علـى الخير والنصيحـة للأمـة وأخذاً بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[7]. أفرد المصنف، زاده الله من علمه، باباً فريداً تضمنه الكتاب أورد فيه دور التصّوف في التقريب بين مدارس الإسلام المختلفة، وهو دور غفل عنه الكثيرون في الوسط الأخير من القرن الحالي، ومن موقعه كشيخ طريقة إسلامية حقـّة، عزى السيد الشيخ عدم قيام الطرق الصوفية بهذا الدور إلى ما لحق بمعظمها في الخمسين سنة الماضية من جهل وغلّو وتمسك بالمظاهر وابتعادهم عن الجوهر الحقيقي للتصوف في الإخلاص والتزكية والأخلاق السامية، ولإعادة هذا الدور ارتأى السيد الشيخ دعوة السادة الصوفية إلى التمسك بأصول التصوف باعتباره مرتبة من مراتب الدين (مرتبة الإحسان)، والتسامح، والتعايش بترك التعصب، وسعة الأفق بتنوع المذاهب الفقهيّة، والمرونة، وإحياء دور الأزهر الشريف التاريخي في التجميع والتقريب بين التيارات والمذاهب الإسلامية، ومحاربة الخرافات والممارسات الخاطئة. ويخلص السيد الشيخ إلى القول بأن الوسطية التي عليها الصوفية الحقّة تشكل قاسماً مشتركاً بين مدارس الإسلام المختلفة سنية كانت أم شيعية، ومذهبية كانت أم سلفية، مما يؤهل التصوف الحق لأن يكون الأقدر على التجميع والتقريب. 
وتضم لجنة البحث العلمي للطريقة الخلوتية الجامعية الرحمانية (زوايا الأشراف) صوتها إلى دعوة الشيخ المرشد إلى التقريب بين مدارس الإسلام المختلفة، واحترام أهل الاختصاص والفوارق بينهم وعدم الاجتراء عليهم والتطاول إلى ما ذهبوا إليه، قال الحسن البصري: (يضيع هذا الدين بين الفاني فيه والجافي عنه). وقال أبن أبي ليلى: (أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  يسال أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول) وقال سحنون بن سعيد: (أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله معه) وبذلك تصح القاعدة الذهبية من أن ما مع الرجل أو الجماعة من علم هو صواب يحتمل الخطأ، وما عند غيره أو غيرهم هو خطأ يحتمل الصواب، فتتلاقى القلوب وتتقارب الأفكار، كما لا يتم تغليب الوسائل على الأصل، إذ أن الوسائل تتغير طبقاً لظروف المكان والزمان والعصر، بينما لا يتغير الدين ولا تتبدل الأهداف، إذ أن الغاية هي الله، والهدف الأسمى هو تحقيق العبودية له، وأن جمع صفوف المسلمين وتوحيدهم هو لتحقيق هذا الهدف. 
لذلك، كانت الفروق بين المناهج في الفروع رحمة في الأمة ولا تستدعي أن يدعي صاحب كل منهج أن منهجه هو الصحيح وأن ما عداه خروج وكفر، بقدر ما تستدعي الالتزام بإتباع ما تم الإتفاق عليه من الأصول واحترام ما اختلف فيه من الفروع آخذاً بمنهج الإمام الشاطبي بتعظيم الجوامع واحترام الفوارق. 
إن افتراق المسلمين على القضايا الخلافية الفرعية يجعل الأصل فرعاً والفرع أصلاً، ويقيم حرباً غير شريفة بين المسلمين بسبب هذه الجزئيات، مما يحدث التمزق في الأمة الإسلامية، بينما يتحرق أعداء المسلمين إلى ضرب الإسلام ومحوه، وإن الاجتماع على ما اجتمع عليه المسلمون الأوائل هو من أهم الواجبات لمواجهة الهجمة الشرسة على دين وأرض المسلمين. 
إن لجنة البحث العلمي للطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية إذ يشرفها أن تقدم كتاب (التقريب بين المدارس الإسلامية ودور التصوف فيه) إلى أهل الإسلام جميعهم، لتوضع بذلك لبنة في حصن الإسلام الذي وعد الله بأن يتمه وينصره ولو كره الكارهون، وتأمل اللجنة استجابة المسلمين لهذه الدعوة المخلصة في جمع شمل الأمة وتحقيق مصالحها ودرء المفاسد عنها، راجية المولى عزّ وجل أن يوفق صاحب هذه الدعوة الصادقة في مساعيه لتوثيق عرى وحدة الأمة الإسلامية وخدمة الدين الحنيف، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّ اللهم على سيدنا محمد النبي العربي الهاشميّ الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
                                                        لجنة البحث العلمي
                                                       للطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية
                                                                 ( زوايا الأشراف )

[1]: آل عمران 104.
[2]: رواه الترمذي وقال حديث حسن
[3]: الإمام الشافعي – آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي
[4]: توالي التأسيس
[5]: رواه الدار قطني والطبراني والبهيقي
[6]: رواه الحاكم وأبو داوود.
[7]: التوبة 71.

مقدمة
الحمد لله القائل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[1] أمر بوحدة الصف واجتماع الكلمة، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الفرقة والخلاف والمراء وحذر من الجهل والفتن والهَرْج فقال (يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج. قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرفها، كأنه يريد القتل) [2] وقال أيضاً (أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا )[3] ؟ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ورضي الله عمن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد،
فإن مما لا شك فيه أن الأمة الإسلامية تتعرض في هذا العصر إلى حملة شرسة تهدف من بين ما تهدف إليه إلى تدمير هويتها وتشتيت شملها وزرع جذور الفرقة والخلاف بين أجنحتها. وقد ازدادت الحرب ضراوة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. واتضحت الصورة أكثر بعد إحتلال العراق. مما دفع عدداً من العلماء الغيورين داخل العالم الإسلامي للتنادي لحوار بين مدارس الإسلام المختلفة وإعتباره أولوية من الأولويات على قاعدة إبدأ بنفسك ثم بمن تعول سيما وأن هناك حواراً مفتوحاً بين الأديان عقدت له مؤتمرات ولقاءات عديدة في أكثر من بلد.
وكان الدافع للدعوة لهذا الحوار هو: هل الخلاف بين المسلمين أنفسهم أشد من الخلاف بين المسلمين وأهل الأديان الأخرى ؟ وإذا كان الله عز وجل قد أمر موسى بلين القول مع فرعون بقوله تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى  فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[4] ؟ أفلا يكون ذلك أولى بين المسلمين أنفسهم ؟ من هو الأولى باللين في القول والمعاملة فرعون الكافر أم المخالف لك في الرأي من أبناء ملتك ؟ أنت في حوارك مع أخيك أكثر تقى من موسى النبي مع فرعون الكافر ؟. ألم يأمرنا الخالق بحوار أهل الأديان الأخرى بقوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[5]؟ من هذا الفهم للقرآن الكريم فإني أعتقد أن الحوار الإسلامي الإسلامي أولى وأهم من الحوار الإسلامي المسيحي.
إن الخطر الداهم الذي يتمثل في تجمع أعداء الأمة من يهودية وصليبية ووثنية رغم إختلافهم فيما بينهم ضد الإسلام والمسلمين ليفرض على فئات المسلمين أكثر من أي وقت مضى أن تتجمع وتتحاور وتتلاقى بجميع طوائفها ومدارسها ومذاهبها أمام هذه الهجمة الشرسة. 
ولئن كان التمذهب ظاهرة طبيعية صحية فإن الإغراق فيها والإنغلاق عليها وعدم التواصل مع الآخر من شأنه أن يزيد في فرقة المسلمين ويغري أعداءهم بهم ومن شأنه أيضاً أن يلغي عالمية الإسلام. فنحن لا نعني بالتقريب إلغاء المدارس الإسلامية أو الدعوة لمدرسة دون أخرى فهذا بالإضافة إلى كونه متعذراً فإنه ينفي التعددية المحمودة الثرية التي أختص بها هذا الدين، فنحن ننادي بالحوار وقبول الرأي الآخر وعدم التعصب للرأي.
وإذا كان قادة الفكر في المجتمعات الإسلامية السابقة لم يتكلموا عن وحدة المسلمين حينما تكلموا عن مقاصد الشريعة الإسلامية فإن مرد ذلك هو أنهم كانوا يعيشون هذه الوحدة واقعاً على الأرض. أما اليوم فإن من واجب قادة الفكر والعلماء في المجتمعات العربية والإسلامية أن يكونوا قدوة صالحة أمام شعوبهم في حمل فكر الوحدة والتقريب لأن الشعوب لن تحمل هذا الفكر إلا إذا رأته واقعاً بين العلماء وقادة الفكر والتجمعات. ولا أزعم أنني أبغي من كتابي هذا الدفاع عن أي طرف ضد الآخر ولن أخوض في مناقشة فكر دون الآخر ولا ترجيح مذهب على آخر إنما أترك ذلك للعلماء ذوي الإختصاص الذين أفاضوا بذلك. وأكتفي بالدعوة إلى ضرورة الحوار وتبيين عناصر التقريب.
ولقد واجهتني مشكلات عديدة وأنا في طور الإعداد لهذا البحث كان من أبرزها قلة المصادر المطبوعة حول التقريب بسبب حداثة النظر في هذه المسألة مما اضطرني الإعتماد على المواقع المهتمة بالتقريب على الشبكة الإلكترونية العالمية ومن أبرزها موقع الوحدة وموقع التقريب ومجلة التقريب وموقع المؤتمر العالمي للتقريب وموقع إسلام أونلاين..  إلخ. وقد كثر اقتباسنا من هذه المواقع. كما استفدت من أوراق العمل التي قدمت إلى مؤتمر التقريب الذي عقد في مملكة البحرين في الفترة الواقعة بين (20-22 / 9 / 2003 ) وأخص بالذكر ورقتي العمل اللتين قدمهما كل من فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي وسماحة الشيخ محمد علي التسخيري.
 أما في الفصل المتعلق بدور التصوف في التقريب بين المذاهب فقد بذلت جهداً لإستخلاص أفكار جديدة بهذا الشأن من خلال تجربتي الخاصة في التصوف علماً وسلوكاً وممارسة وإرشاداً وهي الأفكار التي ضمنها هذا الفصل.
وقد ارتأيت أن أصنف كتابي إلى تمهيد حاولت من خلاله شرح مفهوم التقريب وفي الفصل الأول حاولت أن أشخص المشكلة (العلة) وذلك من خلال واقعنا المؤلم المتشرذم ومن خلال ظاهرة التكفير في المجتمعات الإسلامية. وفي الفصل الثاني حاولت تحديد مبادئ للتقريب بين المدارس الإسلامية وقدمت شرحاً وافياً لكل منها.
وأما في الفصل الثالث فقد تحدثت حـول الـدور الذي يمكن أن يمارسـه التصوف في التقريب بين المدارس الإسلامية (والذي أعنيه هو التصوف الحصيف الحق المستند للكتاب والسنة) والذي لديه الكثير من المؤهلات لقيامه بهذا الدور للتقريب بين المدارس الإسلامية كونه يمثل المرتبة الثالثة من الدين وهي مرتبة الإحسان ولا يمثل حزباً أو تجمعاً أو تنظيماً أو فرقة كما يحاول أن يصوره البعض. واختتم البحث بخاتمة أورد فيها مجموعة من التوصيات الملحة بشأن خطوات التقريب.
 ولأهمية هذا الموضوع أرى لزاماً علي أن أكتب كتابي هذا حوله، سائلاً الله عز وجل التوفيق في العزم والقصد وإن أصبت فمن عند الله وأسأل الله القبول، وإن أخطأت فمن نفسي وأسأل الله المغفرة.                              
                                   كتبه الفقير إلى الله تعالى
                                   حسني حسن خير الدين الشريف
  عمان – الأردن تاريخ:  21 ذي القعدة 1424 هـ
                                13 كانون الثاني 2004 م

[1]:  الحجرات 10.
[2]: أخرجه البخاري.
[3]: أخرجه السيوطي في زيادة الجامع الصغير.
[4]: سورة طه  43- 44
[5]: آل عمران 64.
تمهيد
مفهوم التقريب وأهميته
حتى نقف على أهمية التقريب لابد لنا من أن نتعرف على المقصود من التقريب بين المذاهب.
معنى التقريب بين المدارس الإسلامية
حركة التقريب بين المدارس الإسلامية الفقهية والفكرية ليست أمراً جديداً في واقع العمل الإسلامي إذ تمتد طويلاً في تاريخنا الإسلامي لأنها تستمد دوافعها من الشرع الشريف، فمنذ أن تبلورت المذاهب الفقهية الإسلامية برز عدد من العلماء سعوا إلى التقريب بين هذه المذاهب من خلال ما اصطلح عليه بالفقه المقارن. وكان من علمائه الأوائل ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد. لكن مفهوم التقريب أخذ بعداً آخر في القرون اللاحقة عندما سعى بعض العلماء إلى التقريب بين المدارس الفكرية الإسلامية على اختلاف اجتهاداتها ومرجعياتها. وكان لعدد من علماء التصوف دور بارز في هذا السياق وخاصة في التقريب بين مدارس أهل السنة ومدارس أهل البيت، وفي ضوء ذلك أخذ التقريب بعدين البعد الفقهي للتقريب بين المذاهب الفقهية السنية والشيعية والبعد الفكري الذي يتجاوز الفقه إلى موقف مختلف المدارس الإسلامية من القضايا الفكرية والتاريخية.
وفي النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري وضعت أسس ومعايير لحركة التقريب وما النشاط الجديد في هذا الأمة إلا امتدادٌ لتلك البذرة التي وضعت سابقاً. وأرجو ألا يتبادر للذهن ونحن نعرف التقريب أن المقصود منه محاولة التغيير في المذاهب لتحصيل التقريب، أو أن إتحاد المذاهب يعني ذوبانها. كلا فالأمر ليس كذلك لأن من ينتظر التذويب وإزالة الفروق ليس فقط سيقضي عمره في انتظار ما لا يتحقق ولكن أيضاً يساهم في تدمير أروع مافي هذه الأمة من تنوع فكري فريد، لكن المطلوب بوضوح: أن لا تكون عملية الإتباع للمذاهب قائمة على التعصب والحقد تجاه المذاهب الأخرى أو الجهل بها أو التهجم عليها. وإعتبار هذا التعدد تعدد أراء ووجهات نظر دون الإساءة لعلاقة الأخوة والوحدة بين المسلمين.
وللوصول إلى هذه النتيجة وتأكيدها على الدارس أن يعود إلى الثوابت الشرعية في أسباب اختلاف الأئمة والمفكرين ومنشأ قيام المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية الإسلامية وهو أمر طبيعي يعود إلى اختلافهم في فهم دلالات النص، وإلى اختلافهم في الحكم على صحة النص، أو وصول النص إلى الفقيه أو عدمه، وكذلك إلى اختلافهم في الترجيح بين الأدلة عند تعارضها، واختلافهم فيما لم يرد فيه نص صريح، واختلافهم في قطعية الثبوت أو ظنية الثبوت فضلاً عن اختلاف نظرتهم وتفسيراتهم للوقائع والأحداث التي انبثقت عنها اختلافات في وجهات النظر الفكرية تجاه كثير من القضايا. وبذا يظهر أن الإختلاف في الفروع والقضايا الجزئية أمر غير مستغرب ولا يفسد للود قضية، وهو يثري المسيرة كما أنه عنوان للسعة والرحمة. شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى التعصب والتناحر والتازع والفرقة. فبذلك يجب أن يكون الهدف من التقريب هو التقريب بين جميع طوائف ومدارس ومذاهب المسلمين لأن الأصل أنها جميعاً قريبة من بعضها البعض بحكم التقائها على الأصول والقواعد وأن الخلاف محصور في الفروع وبعض التصورات وليس المقصود تذويب المذاهب أو إلغاءها أو دمج المذاهب بعضها ببعض أو إيجاد مذهب جديد يلغي الباقي وبعبارة أخرى أن الهدف هو إبراز الجوامع المشتركة واحترام الفروق في إطار التأكيد على وحدة الأمة.
أذكر هنا واقعة تدل على هذا الفهم (روى أبو نعيم في حلية الأولياء" عن مالك أنه قال: شاوَرَني هارون الرشيد في أن يعلّق الموطأ على الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكلٌّ مصيب، فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله. وروى ابن سعد في"الطبقات" عن مالك أنه لما حجّ المنصور قال لي: عزمت على أن آمر بكتبك هذة التي وضعتها، فتُنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوا إلى غيرها فقلت لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم الأقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم) [1].
إن التقريب بين المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية هدف نسعى إليه جميعاً لأن فيه قوة المسلمين ووحدتهم وهو من عمل رواسخ العلماء في توحيد رؤيتهم ووجهات نظرهم. وقد آن أوان الإستيقاظ فلابد أن تتوحد الأمة وتبتعد عن المزالق التي وقعت فيها من التفرقة والتشتت والمباغضة والمعاداة بينهم.

[1]: الموطأ للإمام مالك: المقدمة.

الفصل الأول
المشكلة ( العلة )

أولاً: الواقع المؤلم المتشرذم 
 قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [1]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[2].
 إن المشكلة الأساسية التي تعاني منها مجتمعات الإسلام في هذا العصر هي انتشار ظواهر التعصب والغلو والكراهية والقطيعة وعدم التسامح، وكثرة الخلافات بين مدارس الإسلام وطوائفه ومذاهبه المتعددة.
 وهذه الظواهر تعد أكبر تحد وأخطر معول هدم يقضي على هذه الأمة. ومن أجل ذلك نرى الإستعمار قبل أن يرحل عن ديار الإسلام ترك حدوداً مصطنعة لتجديد النزاع والإختلاف بين دول الإسلام حتى لا تتحد وحتى تظل في خلافات سياسية ودولية فيما بينها. وقد أضاف إلى جانب الإختلاف على الحدود ضخ الخلافات الفقهية التي جرت بين العلماء في بعض المسائل الفقهية لعلمه أن النزاع هو الفشل. وبهذه الخلافات زرعوا الغاماً في دروب الشباب حتى يقع بعضهم في بعض ولاتقوم لهم قائمة. ولاشيء أقسى وأخطر من الخلاف في الدين الذي يتهدد دنيا المسلم وآخرته. ولذا اعتبره الله عز وجل خروجاً عن حظيرة الإسلام { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[3].
 والذين اشتغلوا بإيقاظ نار الخلاف والفتن يهدرون حياتهم دون طائل ويضيعون أعمارهم من غير فائدة. ومن بين تلك التحديات عمل الأعداء على حصر المسلمين في موقف الدفاع لا في موقف المنطلق لنشر دعوته فأثاروا شبهات لا حصر لها ليجعلوا المسلم دائماً في موقع المدافع. فنشروا شبهات حول المرأة في الإسلام وحول تعدد الزوجات والطلاق، وإدعاء أن الإسلام انتشر بالسيف أو بالقوة. وكلها شبهات باطلة تحتاج إلى جهد كبير في تنوير الناس بالحقائق وربطهم بخالقهم بدل الإنشغال بالخلاف فيما بينهم.
 إن الواقع المؤلم المتشرذم الذي يعيشه المسلمون يمكن تلخيصه بالآتي:
لقد ابتلي المسلمون في العصر الحاضر بالخلاف حول ثنائيات أربع جعلت وحدتهم تشهد تأزماً وتحتم على العلماء الصادقين الغيورين أن يتعاونوا لجمع شمل هذه الأمة. فقد انقسم العالم الإسلامي أولاً على سنة وشيعة. ثم انقسم إلى صوفية وسلفية، ثم انقسم إلى ظاهرية ومؤولة، وهو الخلاف الذي يتخذ اليوم شكلاً حاداً على هيئة نزاع أشعري تيمي، ثم انقسم مرة رابعة إلى أصوليين ومجددين.
 إن حال العالم الإسلامي من خلال هذا الواقع الأليم واستعراض مواقف الغلاة في كل طرف من هذه الأطراف يكشف عن واقع الفرقة المرعب الذي انجر إليه العالم الإسلامي وهو في غفلة من الوحدة والتقريب وسعة الصدر وبعد النظر والتسامح. هذه المفاهيم غُيبت عن قصد في كثير من بلاد المسلمين وهناك كثيرون من أصحاب النفوذ الذين ينفخون في كير الحقد والأنانية ونكران الآخر.
غاب الحلم عن واقعنا ورفضنا الإستماع لرأي غير رأينا وغلبتنا نوازع النفس والمصلحة الشخصية ثم أغلق باب الإجتهاد مما جر علينا وبالاً كبيراً. وساد التعصب للمذهب وتتبع أخطاء الغير ونشرها. وغلبنا المصالح الضيقة الفرعية على المصالح الكبرى للأمة. وساد الهرج والمراء والجدل من غير طائل. وغاب منطق الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. واتقنا الحفر وراء ما أهيل عليه التراب. واقتصرنا في النظر إلى الآخر على أوجه الخلاف لا الإتفاق. وكان الأصل أن نلتقي على ما اتفقنا عليه وهو كثير وأن ندع ما اختلفنا عليه وهو قليل. ثم ابتلينا أخيراً بظاهرة التكفير التي تحرق الأخضر واليابس.
ثانياً: ظاهرة التكفير في المجتمعات الإسلامية
 وحتى نقف على الصورة الحقيقية لواقع المسلمين اليوم نجد أن سماسرة التكفير قد ولغوا في المسلمين تكفيراً وتفسيقاً وتضليلاً، فإنك أينما يممت وجهك في مسجد أو اجتماع أو فرح أو ترح أو جنازة إلا وجدت من بعض من يتزيا بزي الدعوة والعلم ان جل كلامه الحكمُ على الناس يريد في الوقت نفسه أن يكون قاضياً وداعية وعالماً وجلاداً. والحقيقة أن الأمة قد ابتليت من قديم بأمثال هؤلاء حتى وجد من كفر بعض الصحابة رضي الله عنهم بل وجد من كفر زوج فاطمة البتول وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب حتى استحلوا دمه وقتلوه وأثنى شاعرهم على قاتله
ياضربة من تقي ما أراد بها      إلا ليبلغ ذي العرش رضوانا
إنى لأذكره يوماً فأحسبه       أو في البرية عند الله ميزانا[4]
 وها نحن نرى في زماننا هذا ورثة لهؤلاء انتشروا في المساجد والمجالس والمناسبات ذكرونا بحال الكنيسة الأوربية في العصور الوسطى وهي تعطي صكوك الغفران تهب الجنة لهذا وتحجبها عن ذاك. وهؤلاء اليوم يكفرون ويفسقون ويبدعون من يخالفهم الرأي في أبسط المسائل هكذا بغير ضابط ولا رابط ولا أصل ولا قاعدة ويرتبون على هذا التكفير آثاره من استباحة الدماء والأموال، فلم تعد دماء هؤلاء ولا أموالهم معصومة نزغ الشيطان في نفوسهم أنهم وحدهم بخير وأن الناس سواهم هلكى وعند ذلك تحولت كل حركة من غيرهم شركاً وبدعة وأصبحوا هم الخصم والحكم واغترت الدهماء من العامة بكل كليم اللسان وتشكلت كتائب الهدم. قال أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إِذَا قالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أهْلَكُهُمْ ) [5] إن من واجب دعاة التقريب أن يجلوا للناس بمثال سلوكنا وفكرنا أن هذا الإسلام رحمة وأن مافيه أمتنا أفراداً وجماعة بلاء لا يمس جوهر عقيدتنا رغم ما يشاهدونه من بعض الخرافات والأمراض والعلل التي ننادي ونعمل على تطهيرها.
 المكفرون يدعون أنهم حماة الشريعة والسنة يحاربون المؤمنين ويوالون الطاغوت فعندهم والعياذ بالله أن الملحدين أهون على الإسلام من عجوز تعبد الأضرحة ( كما يدّعون ) أو عالم من صالحي الأمة يخالفهم في المذهب الفقهي.
 إن ما تعانيه بعض مجتمعاتنا من أخطاء وانحرافات وممارسات نعترف بوجودها ولكننا نقول إنها ناتجة عن جهل يحتاج إلى معلمين لا إلى جلادين، إلى دعاة لا إلى قضاة. تحتاج لمد الجسور بين فئات المسلمين والتأليف بينهم، ويبدأ هذا العمل الشامل من الدعاة أنفسهم فعليهم أن يضبطوا تصرفاتهم وحركاتهم بضابطي الكتاب والسنة والفقه في الدين ومعرفة أنواع الفقه والتفريق بين فقه الضرورات وفقه الأولويات وفقه الأزمات وغير ذلك.
 بل بلغ السيل الزبى من ثقافة خوارج هذا الزمن فليس من المعقول أن نجد في أحد المواقع على الشبكة الدولية من يستفتي شيخاً عن إمكانية توصيل الزكاة إلى مجاهدي المقاومة اللبنانية فيفتي له لا يحل التصدق عليهم ولا أكل ذبائحهم ( لأنهم شيعة ) ولا يصح أن نقرأ في موقع آخر الفتوى الشيعية التي سئل فيها أحدهم ( هل يجوز زواج الشيعي من فتاة مسلمة سنية بغير إذن وليها المخالف (أي خطيفة) فتكون الإجابة بالجواز (لأنها سنية) كما لو كانت أعراض المخالفين مستباحة. ونسمع في موقع آخر من يدعو على المنبر ( اللهم انصر المجاهدين في العراق من أهل السنة ) !. إن هذا من شأنه أن يبني حاجزاً نفسياً يصعب هدمه وغير ذلك كثير من الفتاوى التي لا تراعى فيها مشاعر المذهب الآخر.
لست هنا بصدد الدفاع عن هذا المذهب أو ذاك وتبرير هذه المسألة أو تلك لأني أترك ذلك لأهل العلم والفقه والفتوى من الغيورين على هذه الأمة ووحدتها ولم شملها.
 ثالثاً: الشواهد:
 هنالك الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وأقوال بعض العلماء الداعية إلى التقريب والفتاوى التي تجلي الصورة بما يقرب بين المذاهب والمدارس الإسلامية بما يفي بغرض بحثي هذا، مع ذكر بعض رموز التقريب من العلماء.
 قال تعالى: { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [6].
وقال تعالى: { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }[7].
وقال تعالى: { وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ  مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [8].
 وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[9].
 وقال تعالى: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [10].
وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} [11].
 قال صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله، ونفسه، إلا بحقه، وحسابه على الله) [12].
 وفي الصحيح  (  أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال لا إله إلا اللّه فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال لأسامة: "أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللّه؟ وكيف تصنع بلا إله إلا اللّه يوم القيامة"؟ فقال: يا رسول اللّه إنما قالها تعوذاً، قال: "هلاّ شققت عن قلبه"، وجعل يقول ويكرر عليه: "من لك بلا إله إلا اللّه يوم القيامة"؟ قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ)[13].
 وعن أبي معبد المقداد بن الأسود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: (  قلت لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أأقتله يا رَسُول اللَّهِ بعد أن قالها؟ فقال: " لا تقتله" فقلت: يا رَسُول اللَّهِ قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟ فقال: " لا تقتله "، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ) [14].
يقول الدكتور يوسف القرضاوي من علماء التقريب:
( إن الخلاف بين السنة والشيعة يمكن أن يحتمل وإن نقاط الإتفاق أكثر بكثير من نقاط الإختلاف بعكس ما يظن العامة من الطرفين ) [15].
 يقول الشيخ محمد حسين فضل الله من علماء التقريب:
( إذا درسنا الواقع نجد أننا منشغلون بكل شيء إلا الإسلام ينطلق الحزب أو الحركة إسلامياً ثم ينسى الإسلام، والقضية ليست أن يكبر الإسلام بل أن يكبر الحزب والحركة والمنظمة والمرجعية، أن نكبر نحن لا الإسلام ) [16].
يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي من علماء التقريب:
( إن على شريحة من هذه الأمة أن تقوم أولاً بتصحيح جذري في الجماعات الإسلامية التي ماتزال تزداد عدداً واختلافاً فيما بينها فيما يتعلق بمنهج العمل الإسلامي الذي تأخذ نفسها به)[17].
 يقول سيد قطب:
( ومن حسن الحظ أن في فقه الإباضية وأصول ما ذهبوا إليه من المرونة ما يسمح بالتقائهم مع غيرهم على ما يصير المسلم به مسلماً من أصول الدين وقواعده الأساسية فيما نعلم وفي ذلك كفاية) [18].
 يقول الفخر الرازي:
( إعلم أن أكثر من صنف فرق الأمة لم يذكر الصوفية وذلك خطأ لأن حاصل قول الصوفية أن الطريق إلى معرفة الله تعالى هو التصفية والتجرد من العلائق البدنية وهذا طريق حسن، والمتصوفة قوم يشتغلون بالفكر وتجرد النفس عن العلائق الجسمانية ويجتهدون أن يخلوا سرهم وبالهم عن ذكر الله تعالى في سائر تصرفاتهم وأعمالهم منطبعون على كمال الأدب مع الله عز وجل وهؤلاء هم خير فرق الآدميين ) [19].
قال الإمام الشافعي:
( حبب إلي من دنياكم ثلاث ترك التكلف وعشرة الخلق بالتلطف والإقتداء بطريق أهل التصوف)[20].
قال الإمام مالك:
( ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ) [21] يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
 يقول الحبيب الجفري:
( إن تخلف الأمة ناجم عن عدم القيام بالواجب وحمل المسؤلية وتجميل الأخطاء وعلى التهرب من تحمل المسؤلية وإلقاء التهم على إخواننا في الدين ونبذهم ومهاجمتهم مما فرق الأمة وأوصلها إلى هذا المستوى ) [22].
سئل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ماذا تعرف عن المذهب الإباضي فأجاب:
( تخلصُ المسلمين من مشكلة الغلو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منوط بالمرشدين المخلصين العلماء يكرم الله هذه الأمة بهم في كل مدينة وصقع وعندئذ تغيب مشكلة الغلو الذي يعبر عنه اليوم بالتعصب، والإباضية طائفة من المسلمين الذين عرفوا بالورع في دينهم والإخلاص لله في أعمالهم أفلا يكفي هذا الجامع المشترك بينهم وبين إخوانهم المسلمين ). وسئل أيضاً ماهي الوهابية فأجاب: ( أنصحك أن تبحث عن النقاط الجامعة التي تجمع شمل هذه الأمة ولا تتسل بالبحث عن أسباب الخلاف ) [23].
فتوى الدكتور فريد نصر واصل ( مفتي مصر ) عن المذهب الشيعي:
( كل مسلم يؤمن بالله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولا ينكر معلوماً من الدين بالضرورة عالم بأركان الإسلام والصلاة وشروطها وهي متوفرة فيه فتصح إمامته لغيره وإمامة غيره له ولو اختلف مذهبهما الفقهي ولا خلاف بيننا وبين الشيعة في أصول الشريعة الإسلامية ولا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة وقد صلينا خلفهم وصلوا خلفنا ).
رأي ابن تيمية في الصوفية:
( فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضل بن عياض وإبراهيم بن الأدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي والجنيد ( وهم أعلام التصوف ) ومثل الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ حماد والشيخ أبي البيان وغيرهم من المتأخرين فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء أو مشي على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف وهذا كثير من كلامهم. والثابت الصحيح عن أكابر هؤلاء المشايخ يوافق ما كان عليه السلف. والشيخ عبد القادر الجيلاني ونحوه من أعظم مشايخ زمانهم أمراً بالزام الأمر والنهي. ومن أعظم المشايخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية )[24]. ويصفهم بأنهم من أكمل صدّيقي زمانهم [25].
سأل الأستاذ عمر التلمساني الشيخ حسن البنا عن مدى الخلاف بين السنة والشيعة فقال:
( إعلموا أن أهل السنة والشيعة مسلمون جمعتهم كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله وهذا أصل العقيدة والسنة والشيعة في سبيلهم إلى الإلتقاء. أما الخلاف بينهما فهو في أمور من الممكن التقريب فيما بينهما ).
أبو الحسن الندوي:
( إن هؤلاء الصوفية كانوا يبايعون الناس على التوحيد والإخلاص واتباع السنة والتوبة عن المعاصي وطاعة الله ورسوله ويحذرون من الفحشاء والمنكر والأخلاق السيئة والظلم والقسوة ويرغبونهم في التحلي بالأخلاق الحسنة والتخلي عن الرذائل مثل الكبر والحسد والبغضاء والظلم وحب الجاه، وتزكية النفس وإصلاحها، ويعلمونهم ذكر الله والنصح لعباده والقناعة والإيثار. وعلاوة على هذه البيعة التي كانت رمز الصلة العميقة الخاصة بين الشيخ ومريديه. إنهم كانوا يعظون الناس دائماً ويحاولون أن يلهبوا فيهم عاطفة الحب لله سبحانه والحنين إلى رضاه ورغبة شديدة لإصلاح النفس وتغيير الحال.
من أشهر العلماء الذين دعوا للتقارب والوحدة بين السنة والشيعة من موقع البلاغ على الإنترنت:
من السنة:
العلامة الشيخ محمد أبو زهرة.
الإمام حسن البنا.
الإمام الشيخ محمود شلتوت.
الشيخ عبد الحليم سليم.
الشيخ حسنين مخلوف.
الشيخ سليم البشري.
الشيخ الفحام.
الشيخ مصطفى عبد الرازق.
الإمام المراغي.
الشيخ اللبان.
الشيخ محمد الغزالي.
سيد قطب. 
ومن الشيعة:
الإمام محمد حسين آل كاشف الغطاء.
الإمام عبد الحسين شرف الدين.
الإمام محمد القمي.
السيد آغا حسين البروجردي.
الإمام محمد الشيرازي.
المرجع محمد حسين فضل الله.
الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
محمد صادق الصدر.
الدكتور شريعتي.
السيد صدر الدين الصدر.
نواب صقوي.
الإمام أبو القاسم الكاشاني.
الإمام السيد محسن الحكيم.
الإمام الخميني.
الإمام محمد باقر الصدر.
السيد المطهري.
[1]: الأنعام 159.
[2]: متفق عليه.
[3]: الأنعام 159.
[4]: كتاب علي بن أبي طالب لمحمد رضا.
[5]: رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
[6]: الإسراء 43.
[7]: الأنفال 46.
[8]: الروم 32.
[9]: الأنعام 153.
[10]: النور 51.
[11]: الحج 3.
[12]: متفق عليه عن أبي هريرة.
[13]: أخرجه البخاري في التفسير ومسلم في آخر الكتاب وأبو داود في الحروف والنسائي في السير وفي التفسير
[14]: متفق عليه.
[15]: مؤتمر التقريب في البحرين.
[16]: موقع الوحدة على الشبكة الإلكترونية: www.alwihdah.com
[17]: موقع البوطي على الشبكة الألكترونية: www.bouti.com
[18]: موقع الوحدة على الشبكة الإلكترونية: www.alwihdah.com
[19]: إعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 72-73.
[20]: نفس المصدر السابق.
[21]: كتاب الإمام مالك لأبي زهرة.
[22]: موقع الوحدة على الشبكة الإلكترونية: www.alwihdah.com
[23]: نفس المصدر السابق.
[24]: مجموع فتاوى أحمد بن تيمية ج 10 ص 516-517
[25]: الفتاوى جزء 11

الفصل الثاني
مبادئ للتقريب بين المدارس الإسلامية
أولاً: تمهيد
أرى أن التمسك برواسب التاريخ عند غالبية الفرق من شأنه أن يبقي المسلمين في المربع الأول وأن النبش عما أهيل عليه التراب من شأنه أن يبقي الباب مفتوحاً لأهل الفتن. وأن التخلص من أسر التاريخ من شأنه أن يقرب بين المسلمين ليعيشوا واقعهم لا تاريخهم وأن ينطلقوا من ضيق الغلو والتزمت إلى عالمية الإسلام، والأمة الإسلامية هي مظهر لعالمية الإسلام لكن تركيز الخلافات المذهبية وترتيب الآثار عليها يلغي عالمية الإسلام ويحوله إلى دوائر متحاجرة لا تتمتع بأي عمومية ولا تستطيع أن تنشيء خطاباً عالمياً.
إن عالمية الأمة الإسلامية تتوقف على التخلي عن كل ما يؤدي إلى التحزب والتشرذم فوحدة المسلمين حقيقة عقائدية وتشريعية وتاريخية لا مجال للمراء في ذلك أبداً، وأن كون هذه الوحدة تنتظم المسلمين في جميع تنوعاتهم العرقية واللغوية والمذهبية أمر يجب الإعتراف به وترتيب آثاره في جميع علاقات المسلمين.
لابد من تجاوز الوقائع التاريخية التي أدت إلى نشوء إنقسامات سياسية تلابست بعد ذلك مع الإختلاف في الرؤية العلمية أو الفكرية أو في مجال التشريع، فمن المستحيل أن نبني الوحدة بإحياء خلافات التاريخ بل نبني الوحدة بالتركيز على حاجات الحاضر وعلى المسلمات الثوابت في العقيدة والشريعة الإسلامية التي تجعل من المسلمين أمة واحدة.
ومن هنا أعرض في هذا البحث مجموعة من المبادئ (الحلول) للخروج من ضيق الفرقة والإختلاف إلى سعة التقريب والوحدة والإئتلاف. وقبل الحديث عن هذه المبادئ نذكر مجموعة من الضوابط والأسس والثوابت التي يجب أن تلتقي عليها وتؤمن بها مجموعة المدارس المتقاربة وهي الثوابت الأصولية والضرورات الإسلامية التي لا يمكن بدونها أن يكون هناك تقريبٌ.
فمن هذه الثوابت توحيد الله عز وجل في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله. ومنها الإيمان بنبوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم. وبالقرآن الكريم وما فيه المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس. والإيمان بالملائكة والرسل والقدر خيره وشره، والبعث والنشور والإلتزام بضرورات الإسلام وأركانه الخمسة والإلتزام بمصادر التشريع الأساسية كالقرآن والسنة والفرعية المستندة إليهما. والإنقياد لأوامر الشرع الحاثة على الوحدة الإسلامية التي هي خصيصة هذه الأمة، والتي يتفرع منها مبدأ الأخوة الإسلامية. وفيما يلي بعض الأدلة الشرعية التي تحض على الوحدة بين المسلمين والأخوة الإسلامية:
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ  وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}[1].
وقال تعالى: { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ  إِنَّ  اللّهَ  مَعَ  الصَّابِرِينَ }[2].
 قال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [3].
وقال تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[4].
وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [5].
 قال تعالى: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[6]. إلى غيرها من الآيات الكثيرة في هذا المعنى.
وهناك أيضاً عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي تأمر بالوحدة وتحذر من الإختلاف والفرقة منها: 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة وإياكم والتفرقة فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الإثنين أبعد ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ) [7].  
وقال صلى الله عيله وسلم: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية ) [8].
وقال صلى الله عليه وسلم ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبّك بين أصابعه ) [9].
وقال صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)[10].
وقال صلى الله عليه وسلم: ( المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ) [11].
ثانياً: فتح باب الحوار
حتى نلج إلى المبادئ الجادة والمجدية في التقريب بين المسلمين لا بد من فتح باب الحوار بين مدارس الإسلام وفرقه ومذاهبه، فإذا كان القرآن قد دعانا لحوار غير المسلمين فإن حوار المسلمين أنفسهم أولى وأجدى وأعم وأنفع. فالحوار في معانيه الثقافية والحضارية هو جزء أساسٌ في الثقافة والحضارة الإسلاميتين.
 والحوار هو المراجعة في الكلام والتجاوب فيه وما يقتضيه ذلك من سماع الآخر وسعة الصدر معهم والتسامح في حال الإختلاف ورجاحة العقل عند التباين في وجهات النظر. وما يرافق ذلك من سعة إطلاع وثقة وثبات وما يؤدي إليه ذلك من تعامل متحضر راق. وبهذه المعاني ندرك أن الحوار أصل من أصول الحضارة الإسلامية يثبت في الضمير الإنساني فضيلة الإعتراف بالخطأ ومراجعة المواقف إذا اقتضت الحقيقة هذه المراجعة من أجل الوقوف عند الحق.
وهو في أصله يستند إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه الراقية السمحة، بما يحمله من تسامح سوي لا يعني قطعاً التنازل عن الثوابت أو التخاذل أو الضعف، بل يعني الترفع عن الصغائر والبعد عن الأهواء وعدم الإنتصار للذات والتسامي عن الضغائن.
إن من معاني الحوار ما يهتم به أهل التصوف في سبيلهم إلى إصلاح النفس وتحويل صفاتها الذميمة إلى صفات حميدة وفي سيرهم نحو تزكية النفس وإصلاحها ومحاسبتها ومراقبتها من خلال فهمهم لمراتب النفس السبعة [12] ومن بينها النفس اللوامة التي أقسم بها المولى عز وجل بقوله: { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [13] حيث يدور حوار ومحاسبة وتوبيخ بين المسلم ونفسه إن كانت أحسنت لِمَ لم تزدد في الإحسان وإن كانت أساءت لِمَ أساءت، هذا على المستوى الذاتي. ولكن المعنى يتسع حين يكون الحوار مع الآخر لينتفع المجتمع ويدفع بالدعوة إلى آفاق رحبة.
ولا أرى قدرة عند المحاور لمحاورة الآخرين ما لم يمارس عمل النفس اللوامة، وأعني بذلك تزكيته لنفسه حتى يتخلص من الأهواء والشخصنة وحظوظ النفس ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ). وإذا زكت نفسه صار معتدلاً في فكره ووعيه ودعوته، وأرى أن الإعتدال أمر مهم جداً في مسألة الحوار مع الآخرين، والإعتدال هو الصفة العامة لأحكام الإسلام التي تنبذ الغلو وتجعل من كلا طرفي الأمر ذميم لا إفراط ولا تفريط، وقد وردت الآيات الكريمة التي تشير إلى روح الوسطية والإعتدال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ  ) [14]
الآداب العامة للحوار:
الحوار هو الوسيلة الطبيعية لنقل الفكرة للآخرين، توجيه نافع لطبيعة هذا الحوار تناوله من كل جوانبه وهي قوله تعالى: {قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [15].
وفي الخلاف التاريخي بين المدارس الإسلامية وما كان بين السلف من خلاف أدى إلى نشوء الفرق والإتجاهات يقول تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ  } [16] حتى يبتعد المسلمون عن إثارة حزازات الماضي ويتخلصوا من أسر التاريخ والإتهامات المتبادلـة.
لذلك فإن للحوار آداباً عامة يجب على المحاور أن يتحلى بها ومنها:
1.    الإستماع إلى الرأي الآخر:
مما يقتضي التحلي بفضيلة الحلم وسعة الصدر ووعي الفكر، والخروج عن أهواء النفس ونزواتها والنظر بمسؤولية إلى مصالح المسلمين العامة وترجيحها على المصالح الشخصية أو المذهبية أو الحزبية الضيقة.
2.    التماس الحق أينما كان:
وهو بذلك يخرج المحاور من آفة التعصب للمذهب لأنه يستظل بمظلة كبرى هي مظلة الإسلام الجامع للجميع والحق مقصود لذاته وعلى المحاور أن يلتمسه والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها.
3.    المجادلة بالتي هي أحسن:
والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة بعيداً  عن التجريح والتسخيف ومحاولة إحراج الآخر. قال تعالى { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[17]. قال بعض العلماء الدعوة بالحكمة تكون للمعرض والدعوة بالموعظة الحسنة تكون للمقبل والجدال بالتي هي أحسن هي لأهل الملل الأخرى.
4.    حسن الظن بالآخر:
وهو أدب جم من آداب الحوار لأن الإسلام يقيم العلاقة بين أبنائه على حسن الظن وحمل الكلام على أحسن المحامل وإن كان يحتمل معنى آخر. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [18].
إن سوء الظن عمل من أعمال الشيطان يستثير فيه الحسد والغرور والكبر وهو ما فعله الشيطان مع أبينا آدم عندما قال {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [19] ولم يدفعه لذلك إلا غروره وكبره.
أما المؤمن الحقيقي فهو ستر لأخيه حريص على حرمته وماله ودمه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ) [20].
إن مما أساء إلى وحدة المسلمين وتقاربهم هو فعل أولئك الغلاة الذين بنوا علاقاتهم بالآخرين على سوء الظن ففرقوا الأمة شيعاً وطوائف وحرموا التقارب فيما بينها بسوء ظنهم واتهامهم الآخرين لأدنى سبب، كفروا مخالفيهم وفتشوا عن عيوبهم واتهموهم في دينهم بالبدعة واحتقار السنة. فلا يكاد ينجو من سوء ظنهم ولاذع قولهم عامي ولا عالم. تمادوا على الجميع وتطاولوا على العلماء والفقهاء حتى وصل الأمر بهم للتطاول على الأموات من الفقهاء والمصلحين حتى اتهموا الأمة برمتها بأنها قد كفرت مجتمعة بعد القرن الرابع الهجري بل وأكثر فاتهموا الصديق رضي الله عنه بأنه أسلم ثم ارتد يوم الهجرة يوم أن سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء بكل ماله ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر ؟ فقال له أبقيت لهم الله والرسول، فاتهموه بالشرك لأنه قال الله والرسول !. ثم اتهموا الفقهاء فلم يسلم منهم البخاري ولا الشافعي ولا أبي حنيفة فلا يكاد ينجو من اتهام هؤلاء فقيه أو داعية أو مفكر أو مصلح. فإذا اجتهد أحد الفقهاء في مسألة اتهموه بالتهاون وإذا خالفهم الرأي اتهموه بالإبتداع.
إن سوء الظن هو آفة هؤلاء تغلغلت في نفوسهم حتى اتهموا جميع مخالفيهم. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا اللون من الناس في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: ( إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم ). وجاءت الرواية بفتح الكاف فهو أهلكَهُم على أنه فعل ماض أي أنه سببٌ في هلاكهم باستعلائه عليهم وسوء ظنه بهم وتيئيسهم من روح الله. وجاءت بضم الكاف أيضاً فهو أهلكهُم أي أشدهم وأسرعهم هلاكاً بغروره وإعجابه بنفسه وسوء ظنه بهم. والمعلوم أن الإعجاب بالنفس هو إحدى المهلكات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الطبراني ( ثلاث مهلكات: (شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه ).
إننا إذا أردنا التقريب حقاً وفتحنا باب الحوار الجاد للتقريب فإن سوء الظن بالآخر هو آفة ضارة يجب أن تزال أولاً من طريق المتقاربين والمتحاورين. ولابد من مراعاة هذه الآداب مجتمعة حتى نصل إلى أجواء ملائمة للتقريب.
ثالثاً: تجنب التكفير والتفسيق والإتهام بالإبتداع
وهذا مبدأ مهم من مبادئ التقريب بين مدارس وفرق ومذاهب المسلمين. فلا يمكن أن تأتلف القلوب طالما هناك فئات تعتمد استفزاز الآخرين بالعبارات المثيرة والكلمات المستفزة التي تثير الأحقاد. بل تعدى الأمر تلك العبارات التي سنأتي عليها لاحقاً إلى مسألة التكفير التي أشرنا إليها سابقاً وهي مصيبة ابتلينا بها في زماننا هذا كما ابتلي بها سلفنا الصالح.
فرغم النصوص الشريفة التي أوردناها في باب التكفير والتي تحذر من تكفير المسلم للمسلم ( حيث يأتي البعض بآيات وأحاديث نزلت في الكافرين وينزلها بأهل القبلة ) رغم كل هذه النصوص إلا أننا نشهد انتشار هذه المصيبة بين المسلمين مما فرق الأمة وشتت شملها وقوض عزها وأضاع جهدها في العمل المشترك في خدمة الدين وأغرى فيها عدوها. ولذلك أرى في سبيلنا للتقريب أن يُحول الأمر من المقابلة بين ( المسلم والكافر ) إلى المقابلة بين (المخطئ والمصيب ) مستندين بذلك إلى منهجية القرآن الكريم الموضوعية حتى في الحديث والمجادلة مع الكفار الحقيقيين حينما يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [21] فإذا كان هذا الخطاب مع الكافرين فكيف به بين المسلمين أنفسهم. ثم إن تعبير مصيب أو مخطئ مستساغ جداً وتقبله النفس سيما إذا علمنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل بني آدم خطاء ) [22]، فما من معصوم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ثم إن استخدام العبارات المثيرة المستفزة للآخرين تخالف النص القرآني { وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَاب} [23]. فنجد البعض يصف الآخر بتسميات تفرق ولا تجمع كتسمية الشيعة بالرافضة وأهل السنة بالناصية والصوفية بالمبتدعة. ومن المعروف أن من السنة أن يدعوا الأخ أخاه بأحب الأسماء إليه. بل ازداد الشطط عند بعض الفرق في تجريح رموز الفرق المخالفة كمن أساء من أهل السنة لآل البيت لأن الشيعة تشيعوا لهم ومن أساء من الشيعة إلى الصحابة الكرام الذين توفي رسول الله صلى الله عليه سلم وهو عنهم راض.
إن من المستهجن أن نرى من يسيء إلى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ذكرهم القرآن الكريم بقوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [24].
 جاء في صحيح مسلم عن زهير بن حرب وشجاع بن مخلد عن ابن عليه قال زهير حدثنا اسماعيل بن إبراهيم حدثني أبو حيان حدثني يزيد بن حيان قال: (  انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن سلمة إلى (زيد بن أرقم) رضي اللّه عنه، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: يا ابن أخي واللّه لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا، فلا تكلفوا فيه، ثم قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة، فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: "أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب اللّه تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به" فحث على كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي" فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي اللّه عنهم، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال: نعم ) [25].
ثم إذا نظرنا إلى تفسير الآية الكريمة من سورة الشورى (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[26]، قال البخاري وغيره رواية عن سعيد بن جبير مامعناه أنه قال ( معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم ).
وثبت في الصحيح ما قاله البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال ( ارقبوا محمداًصلى الله عليه وسلم في أهل بيته ) [27].  فمن ذا الذي يجرؤ على الإساءة إلى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم !.
في الطرف الآخر تبقى كارثة ( سب الصحابة) من قبل بعض الشيعة. هؤلاء الصحابة الكرام من السابقين الأولين الذين أثنى عليهم الحق تبارك وتعالى وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. والصديقة بنت الصديق عائشة الطاهرة التي برأها الله من فوق سبع سماوات وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها وقبض في حجرها ودفن في حجرتها.
فكيف يمكن أن ننادي بتقارب بين المسلمين ورواسب التاريخ تنهش فينا. لابد في سبيل فلاح الأمة من علماء عقلاء راشدين ينهضوا لمحاصرة هذه الإرهاصات، وقد رأينا فعلاً من علماء كلا الطرفين من ينادي بالخروج من هذا المأزق وعدم تركه للعوام الذين إذا تركوا لأهوائهم لن يسجل لهذه الأمة تقريبٌ ولا فلاحٌ ولا رشدٌ.
وفي سبيل الخروج من هذه الإرهاصات الحمقاء أورد بعض الأقوال لعلماء أفاضل قالوا فأجادوا وماذلك إلا حرصاً منهم ووعياً للواقع الأليم المتشرذم الذي يعيشه المسلمون اليوم. وهي بمجموعها تشير بوضوح إلى فكر الإعذار والتقريب الذي نحن بحاجة إليه:
قال الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن:
( لا يجوز أن يُنسبَ إلى أحد الصحابة خطأ مقطوع به إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل. وهم كلهم لنا أئمة وقد تعبّدنا بالكف عما شجر بينهم وألا نذكرهم إلا بحسن الذكر لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم. وإن الله غفر لهم وأخبر بالرضا عنهم، هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض فلو كان ماخرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيراً في الواجب عليه لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة فوجب حمل أمرهم على مابيناه ) [28].
قال ابن فورك:
( ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ماجرى بين الصحابة من المنازعات كسبيل ماجرى بين إخوة يوسف مع يوسف ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة)[29].
وقال المحاسبي:
( فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا وعلموا وجهلنا واجتمعوا فاتبعنا واختلفوا فوقفنا. قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن ونعلم أن القوم كانوا أعلم فيه منا ونتبع ما اجتمعوا عليه ونقف عند ما اختلفوا فيه ولانبتدع رأياً منا ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل إذ كانوا غير متهمين في الدين ونسأل الله التوفيق ) [30].
يقول الشيخ القرضاوي:
( من الواجب علينا أن نشتغل بحاضرنا بدل أن يشغلنا ماضينا.
وحاضرنا مليء بالمصاعب والآفات والعقبات التي تقف في وجوه المصلحين والمجددين، وهي تحتاج منا إلى جهود مضنية كفيلة بأن تشغل عقولنا وقلوبنا وسواعدنا. ثم يقول وقد سمعت شيخنا محمد الغزالي رحمه الله يرد على رجل يجادله فيما كان بين الصحابة ويثير سؤالاً لا معنى له: أيهما أحق بالخلافة أبو بكر أم علي ؟ فقال له الشيخ: لقد ذهب أبو بكر وذهب علي وذهبت الخلافة الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية وألغيت الخلافة نهائياً من ديار الإسلام وأصبح الذين يتحكمون فينا هم الخواجات الأجانب لا أبو بكر ولا علي فإلى متى نظل في هذه المفاضلات الحمقاء ) [31].
يقول الإمام الغزالي في معرض حديثه عن السب وسب الصحابة:
( المؤمن ليس بلعان فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعنيين. فالإشتغال بذكر الله أولى فإن لم يكن ففي السكوت سلامه ) [32].
إن الواجب يحتم على المخلصين في خدمة هذا الدين أن يتركوا وراء ظهورهم الماضي ويلتفتوا إلى واقع المسلمين اليوم ويغضوا الطرف عن كل الأقوال التي حملها التاريخ والتي تفرق ولا تجمع وتهدم ولا تبني. وإن من فضل الله على هذه الأمة في هذا الزمان أننا بدأنا نسمع أقوال علماء من شتى المدارس والفرق والمذاهب تنادي بثقافة التقريب وتدعو إلى وحدة المسلمين، وقد عقدوا لذلك مؤتمرات عديدة وندوات متعددة نسأل الله أن يتمم جهودهم ويوفقهم في مسعاهم.
رابعاً: إحياء ثقافة التجديد في الأمة
وأقصد به إعادة السنن التي تقادم عهدها وغشيتها عوادي الزمان إلى حالتها الأولى التي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم بمعنى تجلية حقائق الإسلام وبيان مفاهيمه صوناً لها من التزييف والإختلاط. وأستمدُ فهمي لهذا التجديد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو داود والحاكم والخطيب البغدادي والبيهقي وابن عساكر والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:  ( أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)[33]. وروى الطبراني قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الإيمان يخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم)[34].
إن التجديد المطلوب هو إحياء لواجب الإتباع ولا أعني به الإبتداع، بل هو إحياء السنة بعد اندراسها خاصة بعد الضغوط الهائلة التي يتعرض إليها عالمنا الإسلامي ممن ينادي بتغيير الأصول والثوابت، وهو تجديد يحتاج إلى نوايا صادقة لخدمة الدين ويحتاج إلى دعاة لبقين يعيدون للدعوة ألقها وحكمتها ولباقتها وسماحتها.
ويحتاج كما قلنا سابقاً إلى حوار جاد مقنع واعٍ معرفي مؤدب يحسن فيه الداعية طرح أفكاره ويلتزم الأدب ويجتنب الفظاظة والغلظة والسوقية في الأقوال والأفعال.
إن العودة إلى القواعد والأصول في الخطاب الإسلامي من شأنه أن يساعد في عملية التقريب بين المدارس والفرق والمذاهب. وأرى أن التجديد مطلوب في الأمور التالية:
1.   التجديد في الإجتهاد:
 ويكون ذلك في فتح باب الإجتهاد. لأن الدين صالح لكل زمان ومكان وتغير الزمان يحتاج إلى فقه في الأمور المستجدة. ويحضرني في هذا المقام الحديث المتفق عليه الذي رواه الصحابي الجليل معاذ بن جبل ( أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بكتاب اللّه قال: "فإِن لم تجد في كتاب اللّه؟" قال: فبسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: "فإِن لم تجد في سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا في كتاب اللّه؟" قال: أجتهد رأيي ولا آلو (لا أقصر في الإجتهاد)، فضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدره وقال: "الحمد للّه الذي وفق رسول رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه ) [35].
معنى لا آلو أي لا أقصر في بذل الجهد، لذا عرف الفقهاء الإجتهاد بأنه بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. إلا أنه مما يؤسف له أننا نلاحظ أن الإجتهاد في زماننا لا يزال إجتهاداً مذهبياً بحيث أن كل أئمة وفقهاء كل مذهب يعملون على الإجتهاد في نطاق منهج وأصول وقواعد مذهبهم الخاص وهذا أمر حسن في ذاته ولكنه لا يخدم مقصد الوحدة والتقريب وإنما يعزز الحيوية الفكرية والفقهية في داخل المذهب.
ومن أجل الوصول إلى وحدة حقيقية وتقريب فاعل أرى أن الواجب يقتضي التأصيل إلى منهج إجتهاد مطلق عام لجميع المسلمين بشتى مدارسهم وفرقهم ومذاهبهم. ويكون ذلك من خلال عقد المؤتمرات الفقهية الجامعة لكل المذاهب والمدارس. ولا مانع من وجود مستويين من الإجتهاد: مستوىً للإجتهاد المذهبي الخاص ومستوى إجتهاد مطلق عام يلبي حاجة الأمة في قضاياها الكبرى.
2.   التجديد في العقيدة:
وأعني به العودة إلى إعتماد منهج القرآن الكريم والسنة المطهرة والسلف الصالح في ناحية التلقي في العقيدة وتصحيح مفاهيم العوام التي دخلت في ظلمات كثيفة من الفكر الأجنبي الذي غشى على جوهرها أو الخرافات التي استقرت في نفوس البعض على أنها حقائق من الدين لبعد العهد بها. وما كان في أثر ذلك من تحديات أوجدها المستشرقون أو تحديات راهنة مثل الإلحاد والمادية الجدلية وأخيراً العلمانية ونحوها. وهذا بحد ذاته يحتاج إلى جهد من المخلصين العلماء العاملين الناصحين.
3.   التجديد في الأخلاق:
وأعني بها علوم التزكية وذلك بإحياء الربانية وإصلاح القلوب وتزكية النفس بعيداً عن الإفرط الذي أدى إلى الشطح والتوهان والتفريط الذي جرد الإسلام من روحه وإيمانياته. وأرى أن منهج التصوف الراشد الحصيف يمكن الإستفادة منه في هذا المضمار حيث التزكية الصادقة والأخلاق والمثل العليا والزهد الصادق المتبصر والربانية المخلصة التي اقتدت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً وداعياً وذاكراً، وفي أخلاقه وإخلاصه واحتسابه وصبره وتوكله وزهده وإيثاره وكرمه وحيائه إلى غير ذلك من الأخلاق التي لابد منها إذا أردنا التجديد والتقريب حقاً.
4.   التجديد في الفهم:
 لى أرباب التجديد والتقريب أن يعلموا أن الخلاف في الفروع والجزئيات أمر واقع لامحالة لأنه من طبائع البشر ولايمكن للناس أن يلتقوا في الفهم والأفكار والإلتقاء على نمط واحد. وعليهم أن يعلموا أن التنوع في المدارس والمذاهب أمر طبيعي أثرى الثقافة الإسلامية على مر العصور. وعليهم أن يعلموا أن المذموم في ذلك هو التعصب لأي مذهب دون فهم للرأي الآخر.
وعليهم أن يعلموا أن المذاهب جاءت نتيجة اجتهادات سمح بها الإسلام وعلينا أن نجعلها سبلاً لرضى الله عز وجل، وحين تختلف هذه المذاهب فعلى المسلم الذي يمتلك الأهلية أن يدرسها ويختار مايراه أفضل وفق فهمه لدينه الذي سيلقى الله به. وحينئذ ليس لأحد الحق في لومه على اختياره كما أنه ليس من أحد ألحق في إجباره على اختيار مذهب ما.
وعلينا جميعاً أن ندرك أبعاد الخطاب الدعوي المعاصر وما يجب أن يشتمل عليه من بعد إنساني { يا أيها الناس } وبعد عالمي { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [36] وأنه خطاب يتسم بالرحمة والشفقة عليهم (أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) [37]. وذلك بالبعد عن كل ما ينفر وما يعسر (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا)[38].
وعلينا جميعاً أن يكون لنا نصيب في فهم فقه الأولويات والموازنات وإنزال كل حكم منـزلته والبدء بالأهم قبل المهم.
خامساً: التركيز على نقاط الإتفاق والتعذير عند الإختلاف
إن من المبادئ الهامة في التقريب أن يركز المقربون على نقاط التلاقي لا على نقاط التمايز. خاصة إذا علمنا أن معظم نقاط التلاقي هي في الأصول ومعظم نقاط التمايز هي في الفروع.
 فالجميع متفق على أركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة وإن وجد خلاف بينهم في بعض الأحكام فهو كما يحدث بين مذاهب السنة بعضها مع بعض وهو اختلاف طبيعي لا يفسد للود قضية خاصة أننا لا نجد نهياً إسلامياً عن الإختلاف في الآراء { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [39]، وفي الآية التالية { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[40]. وإنما ينصب النهي على التنازع العملي المذهب للقوة والتفرق في الدين والتحزب الممزق {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [41]، فحالة الإختلاف طبيعية يجب أن نألفها ولا نبالغ بها ونهولهُا ليكون الإختلاف أخوياً كما كان بين الفقهاء والعلماء من سلفنا الصالح. ورحم الله يونس صاحب الإمام الشافعي إذ يقول ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيته فأخذ بيدي ثم قال يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
فالأصل عند الإختلاف هو الإعذار والحوار. وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد رشيد صاحب تفسير المنار ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه )، وهو منهج كل دعاة التقريب. وقد رد الدكتور يوسف القرضاوي في مؤتمر البحرين على منكري هذه القاعدة    ( أعداء التقريب ) بقوله ( إن النصوص منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة وهذا لاعذر في مخالفته ولكن هذا النوع من النصوص قليل جداً ومعظم النصوص إما قطعية الثبوت ظنية الدلالة أو ظنية الثبوت قطعية الدلالة أو ظنية الثبوت ظنية الدلالة، وفي هذه "الظنية" مجال الإجتهاد والإختلاف وهنا يكون عذر المخالف. فقد يكون معك حديث في المسألة ولكني أخالفك فيه لأنه ثابت عندك وليس بثابت عندي ولهذا أمثلة لا تحصر أو يكون ثابتاً عند كلينا ولكن فهمي له غير فهمك له واستنباطي يخالف استنباطك ومخالفتي لك هنا ليست مخالفة للحديث بل لفهمك له والحديث وحي ولكن فهمك له ليس وحياً)[42].
إن ما يؤسف له حقاً أن الأمم جميعاً تلتقي وتتقارب ومنه ما نشاهده اليوم في أوربا التي اتحدت بجميع دولها، والمسلمون يتنازعون ويتفرقون وصار بأسهم بينهم شديداً في الوقت الذي تداعت عليهم الأمم من أقطارها كما تداعى الأكلة على قصعتها، كاد الأعداء لنا وفرقوا شملنا وقوضوا عزنا والمسلمون في غفلة، وهم في أمس الحاجة للوحدة والتلاقي.
وأختم هذا الباب في مبادئ التقريب بذكر قصة موسى عليه السلام التي ذكرها القرآن لما فيها من عظة وعبرة. وهي ما حصل لهارون عليه السلام مع قومه حين ذهب موسى لمناجاة ربه أربعين ليلة فأضلهم السامري وأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقال هذا إلهكم وإله موسى وأطاعه قومه وعبدوا العجل الذي لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ولا يهديهم سبيلاً { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي   قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى } [43] ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا لما فعلوه في غيبته وألقى الواح التوراة في الأرض غضباً لله وللحق وأخذ برأس أخيه يجره إليه قائلاً له { قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا   أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي  قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}[44].
وقد رضي موسى بهذا الجواب من أخيه وأقره القرآن الكريم فدل على أن ما رآه هارون أمر له إعتباره في ميزان الدين وهو الحرص على وحدة الجماعة حتى لا تتمزق والسكوت على منكر كبير بل هو أكبر منه وهو الشرك بالله تعالى بعبادة غيره حرصاً على وحدة الجماعة وهو قطعاً سكوت مؤقت حتى يرجع موسى من رحلته ويتفق الأخوان معاً في علاج الموقف بما يلائمه.

 

[1]: آل عمران 102-103.
[2]: الأنفال 47.
[3]: الأنبياء 92.
[4]: المؤمنون 53.
[5]: الحجرات 10.
[6]: آل عمران 105.
[7]: رواه أحمد والنسائي والحاكم عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[8]: رواه أحمد وأبو داود والنسائي وإسناده حسن وصححه النووي عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
[9]: متفق عليه عن أبي مؤسى الأشعري رضي الله عنه.
[10]: متفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[11]: رواه أبو داود والنسائي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
[12] عد إلى كتابي الدلالة النورانية للإطلاع على مراتب النفس.
[13]: سورة القيامة 1 – 2.
[14]: البقرة 143.
[15]: سبأ 25.
[16]: البقرة 134.
[17]: سورة النحل 125.
[18]: الحجرات 12.
[19]: الأعراف 12.
[20]: أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[21]: سورة سبأ 24.
[22]: أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة والحاكم في المستدرك عن أنس تصحيح السيوطي: صحيح‏
[23]: الحجرات 11.
[24]: الأحزاب 33.
[25]: صحيح مسلم
[26]: الشورى 23.
[27]: صحيح البخاري.
[28]: تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن.
[29]: كتاب التقريب / القرضاوي / مؤتمر البحرين.
[30]: تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن.
[31]: كتاب التقريب / القرضاوي / مؤتمر البحرين.
[32]: كتاب إحياء علوم الدين. ج3: 125-126.
[33]: رواه أبو داود.
[34]: رواه الطبراني في الجامع الصغير.
[35]: رواه أبو داود في السنن.
[36]: الأعراف 158.
[37]: الممحتحنة 8.
[38]: صحيح  البخاري.
[39]: سورة هود 118.
[40]: سورة هود 119.
[41]: الأنفال 46.
[42]: مؤتمر التقريب في البحرين.
[43]: سورة طه 90-91.
[44]: سورة طه 94.
الفصل الثالث
دور التصوف في التقريب
 

الدور الممكن للتصوف في التقريب:
من خلال موقعي كشيخ لطريقة صوفية هي الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية ومن خلال فهمي للتصوف، وبعيداً عن التخندق المذهبي حيث قلت بأن التمذهب ظاهرة طبيعية البغيض فيها هو الغلو ونكران الآخر، ورغم علمي بأن التصوف قد ابتلي ببلايا عظيمة مرة من منتقديه بتكفيره وتبديعه ومرة من بعض أهله بجهلهم وغلوائهم وظنهم أن التصوف هو مجموعة من الحركات والطقوس المفرغة من الجوهر والمفرغة من العلم والمعرفة مما سمح بانتشار بعض الخرافات والخزعبلات أساءت للتصوف بوصفه روحاً لهذا الدين يقوم على مبدأ الإحسان الذي هو المرتبة الثالثة من مراتب الدين والذي يعنى بتزكية النفس والإخلاص الكامل في العبودية لله الواحد الأحد والتأكيد على الأخلاق المثلى كالإخلاص والصدق والزهد والمعرفة والإيثار والتضحية والتسامح والجود والعفو وكظم الغيظ وتحمل الأذى والحلم وغيرها من الأخلاق، والبعد عن سيء الأخلاق والعمل على تحويل الصفات الذميمة إلى صفات حميدة كتحويل صفة البخل إلى صفة الكرم وصفة الكذب إلى صفة الصدق والغضب إلى الحلم والطمع إلى الزهد وهكذا [1].
أقول رغم علمي بكل ذلك إلا أنني أرى بأن للتصوف دوراً يمكن أن يمارسه في خدمة الأمة للتقريب بين مدارسها وفرقها ومذاهبها استناداً للمعطيات التالية:
أولاً: التصوف هو مرتبة من مراتب الدين
         الذين يفهمون التصوف ويقدرونه قدره يعلمون أنه يمثل المرتبة الثالثة من مراتب الدين وهي مرتبة الإحسان التي تلي مرتبتي الإسلام والإيمان. فهو إذن جزء من الدين، ولا يشكل بحال من الأحوال تنظيماً أو حزباً أو فرقة أو جماعة أو حركة. وهذا ما كان عليه الحال في القرون التي انقضت من تاريخ هذا الدين إذ كان السواد الأعظم ومازال من المسلمين هم من الأشاعرة الذين اعتنوا بهذه المرتبة بما فيها من قيم روحية وأخلاقية وتزكوية. قبل أن يتسلل إلى بعض هؤلاء تلك الظواهر السلبية التي الصقت بالتصوف وأساءت إليه. وكان الأحرى بالغيورين على أخلاق الإسلام والمسلمين أن ينبروا للدفاع عن قيم الإحسان هذه وتوجيه الناس نحو الصواب بدلاً من شن الحرب الظالمة عليها وتكفيرها أحياناً. والذي يعود إلى كتاب أعلام الصوفية يدرك حقيقة التصوف ومرتبته وأهميته في واقع المسلمين. ولذلك فإنني لا آبه كثيراً في الدفاع عن تسمية ( التصوف ) بمقدار ما يشدني الحرص على أخلاق المسلمين وتقويمها من خلال هذا المنهج الضروري.
إننا إذا جردنا التصوف من الصورة القاتمة التي رسمها غلاة الطرف الآخر ندرك أننا أمام جوهر نقي خالص لابد منه في عملية الإصلاح وعملية التوحيد وعملية التقريب. ولذلك أرى أن تحييد التصوف عن هذه العملية يشبه إلى حد كبير نزع الروح من الجسد والإستغناء عن مقوم أساسي من مقومات الدين لايمكن بل يستحيل من دونه أن ننهض من غفوتنا وسنبقى نعالج القشر دون الوصول إلى الجوهر. وسنفقد خصوصية هذا الدين وتميزه عن الأديان الأخرى كونه يعتني بالقشر والجوهر، والجسد والروح، والدنيا والآخرة، وظاهر الإنسان وباطنه. وليس أدل على ذلك من تاريخنا الإسلامي حيث كان التصوف شائعاً بين المسلمين بمفهومه التربوي والتزكوي والجهادي أيضاً. وكان المسلمون إذ ذاك في أوج قوتهم ومنعتهم وكان الإسلام ينتشر شرقاً وغرباً. وكلنا يعلم أن كثيراً من أصقاع الدنيا فتحت بالكلمة الطيبة والدعوة الراشدة. بخلاف الحال الذي نعيشه اليوم والذي جردنا فيه الجسد من الروح.
ولكي نعود إلى ذلك النقاء وتلك الشفافية لابد من الإهتمام بالروح والعودة إلى أخلاق الإسلام من خلال منهج التصوف البعيد عن الشطط والشكليات. وأرى لزاماً على العلماء ومشايخ الطرق والأتباع الراشدين أن يهبوا هم قبل غيرهم لتخليص التصوف من كل الشوائب التي علقت به مع تقادم العهد. وأن يتخلصوا من كل الشكليات التي حطت من قدر التصوف ليعود إلى نقائه ودوره وأصوله وجوهره وعند ذلك يكون قادراً على أداء دور هام  في التقريب بين مدارس الإسلام وفرقه ومذاهبه.
ثانياً: التسامح
اهتم التصوف كثيراً بخلق التسامح الذي تشتد الحاجة إليه في ثقافة التقريب التي نحن بصددها. فنحن من خلال ممارستنا للإرشاد في هذا الطريق نركز كثيراً على ثقافة التسامح والعفو وكظم الغيظ والترفع عن سفاسف الأمور والإشتغال بذكر الله وهو لهذه الصفات استطاع بكل رسوخ البقاء على الحياد في صراعات الفرق رغم الحملة شديدة العنف التي تعرض لها، وما كان ذلك لولا ثقافة التسامح التي تبناها وعاشها واقعاً من خلال فهمه لكتاب الله عز وجل وفهمه للآيات الكريمة ذات الصلة وفهمه واقتدائه بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلال قولـه تعالى    { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }[2]  ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }[3] فما كان من قابيل إلا أن قتل أخاه ليصبح بهذا مرتكباً لأول جريمة قتل في التاريخ. في حين أننا تلمسنا واقعاً في أخلاقنا وسلوكنا موقف الأخ المتسامح والذي لا يعني في الوقت نفسه التنازل عن الثوابت الشرعية التي أمر الله بها ونهى عنها.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه المتسامح مع وحشي قاتل عمه ونصيره حمزة بن عبد المطلب. وموقفه المتسامح صلى الله عليه وسلم من المشركين عند فتح مكة.
وقد قرأنا أبيات الشافعي الرائعة:
يخاطبني السفيه بكل قبح        وأكـره أن أكون لـه مجيباً
يزيد سفاهة وأزيد حلماً         كعـود زاده الإحراق طيباً
وقوله أيضاً:
سامح صديقك إن زلت به قدم    فليس يسـلم إنسان من الزلل
 إن ثقافة العنف والتجريح والتضليل لا يمكن لها أن تكون شيئاً في عالم التقريب.
ثالثاً: التعايش
       لقد شكل التصوف الإسلامي عبر التاريخ في بلد مثل العراق نموذجاً يحتذى في التعايش بين المذاهب والفرق، فرغم وجود الشيعة بأعداد كبيرة والتصوف بأعداد أكبر في ذلك البلد إلا أننا لم نسمع بحدوث فتن على نطاق واسع مما يدلل أيضاً على إمكانية ممارسة دور ما للتصوف في التقريب بين المذاهب.
وللتدليل على ذلك نأخذ نموذجاً معاكساً يكشف عن واقع الفرقة المخيف الذي يمكن أن ينجر إليه العالم الإسلامي إذا تقاعس عن أداء دوره في التقريب والوحدة، وهو واقع المسلمين في باكستان. فقبل شهور قدمت إحدى القنوات الفضائية برنامجاً مطولاً عن هذا البلد الإسلامي العزيز والكبير واستعرضت فيه صور التعصب والبغضاء التي تأسست في تلك البلاد الإسلامية، فقد اتخذ الصراع السني الشيعي بعداً آخر غير البعد الفكري والتاريخي المألوف وتحول للأسف إلى واقع سياسي وعسكري واجتمعت جهود أهل التعصب من السنة على تأسيس ما يسمى جيش الصحابة فيما اتجهت جهود أهل التعصب من الشيعة على تأسيس جيش محمد، وفي الواقع فإن كل جيش من هذين الجيشين يحتوي أحقاداً متبادلة وأسلحة متنوعة موجهة فقط إلى صدور المسلمين. حالة خطيرة جداً ومن ذا الذي سيوقف هذه النار إذا زاد أوارها، ثمة مائة وعشرون مليون سني ونحو أربعين مليون شيعي والأرقام نفسها تتكرر تقريباً في الهند وبنغلادش، وكير البغضاء الذي ينفخ فيه أهل الغلاة يمكن أن يحرق المنطقة بأكملها مع قلوب كل المسلمين ويفرح الأعداء أجمعين.
وفي لقاء مباشر مع رئيس جيش الصحابة ورئيس جيش محمد لم يتردد كل منهما في إطلاق صفة الكفر والردة على أتباع المذهب الآخر وهي دعوة كافية لهدر الدم والمال والعرض للفئتين جميعاً. وبالفعل فقد قام بعض المتحمسين من كل فرقة بوضع القنابل في مساجد الفرقة الأخرى في الصلوات الجامعة ( تقرباً إلى الله ! ) واريقت دماءٌ زكية بريئة باسم الدين والغيرة عليه.
 ومع أنني أشك في الجهات التي تحرك هؤلاء وهؤلاء فإن ذلك لا يعفي العلماء من أهل البلاغ والتسامح والفقه في تحقيق التقريب المنشود. فغياب هؤلاء وغياب التسامح والتقريب هو الذي يذكي هذه النار.
رابعاً: سعة الأفق عند الصوفية
أكاد أجزم بأن التصوف هو الوحيد من بين مدارس الإسلام الذي امتاز بتنوع مذاهب أبنائه الفقهية فتجد الصوفي الشافعي والصوفي الحنفي والصوفي المالكي والصوفي الحنبلي مما يدل على مرونة في الفكر وتسامح وعدم تعصب. وقد عشنا هذا واقعاً في طريقتنا الخلوتية فأنا حفيد لجد حنفي وابن لأب شافعي وأنا حنفي.
خامساً: الإلتقاء في منتصف الطريق ( المرونة )
إنني أعتقد بأن التصوف الحصيف الراشد هو الأقدر على الأخذ بهذه الحكمة من خلال تمييزه بين الأصول والفروع ومن خلال أخذه بالفهم الصحيح لمصادر التشريع المتعددة من كتاب وسنة وإجماع قياس واستحسان وشرع من قبلنا واستصحاب وفعل الصحابة وغيرها من المصادر، وقدرته على بث روح التقارب بين المسلمين وقبوله للتنوع وقبوله للآخر وقدرته على التفريق بين الأصول والفروع وقبوله النقد واستعداده للتغيير نحو الأفضل في الجزئيات الهامشية التي تؤخذ عليه مما يقرب ولا يفرق في سبيل وحدة الأمة التي هي واجب شرعي ملح.
وأضرب مثالاً واقعياً للتدليل على هذا الفكر:
أذكر أننا في طريقتنا كنا عندما نتلاقى مع إخواننا يقبل الواحد منا يد الآخر في مصافحة توارثناها عمن قبلنا، وكنا نشعر بأن هذه الطريقة في المصافحة والتقبيل تعني خفض جناح المؤمن لأخيه، وتأليفاً لقلبه وكانت تفعل الأعاجيب في التأليف بين قلوب المتحابين. وفي زماننا هذا وعندما قل التقدير والإحترام والتوجيب لأهل العلم والصلاح، أصبحت هذه الطريقة في المصافحة والتقبيل تشكل مجالاً للغيبة والتفريق والإنتقاد والتشكيك. وعندما قمت بقياس المسألة ووجدت على قاعدة ( رحم الله امرأ جب الغيبة عن نفسه ) وجدت أن الضرر المتأتي أكبر من النفع فطلبت إيقاف تلك المصافحة والتقبيل وتقبلها أتباع الطريقة بقبول حسن وكان لهذا الفعل صدى إيجابي في المحيط كله. وقد كانت لنا تجارب أخرى تدل على المرونة وهي استغناؤنا عن الدفوف التي كانت تضرب في حلق الذكر وأوقفنا العمل بالذكر الجماعي ( حضرات الذكر )، وهكذا فإننا نميز بين الأصول والثوابت وبين الفروع التي تؤخذ وترد حسب واقعها المعاش وحسب النفع والضر.  وبمثل هذا الفعل أرى أن المسلمين قادرون على الإلتقاء في منتصف الطريق أملاً في وحدة تجمع الجميع.
سادساً: إحياء دور الأزهر الشريف التاريخي
      عندما كان الأزهر الصوفي الأشعري على رأس القيادة والزعامة الدينية للعالم الإسلامي وعبر ألف سنة من تاريخه المجيد كانت المجتمعات الإسلامية ترفل بثياب العزة والمنعة والرشاد وهو يغذيها بالعلم والمعرفة والتنوير والدعاة الراشدين بخلاف الحال الذي نعيشه اليوم من مهانة وذلة وصغار لما انتقلت الزعامة الدينية إلى جهات أخرى جرّت على العالم الإسلامي ويلات لم يعهدها من قبل.
لقد كانت الزعامة الأشعرية للأزهر عامل تجميع وتقريب بين التيارات والمذاهب في العالم الإسلامي وكان الأزهر ومازال يدرس جميع المذاهب. إنني أعتقد أن إحياء دور الأزهر الذي جرى تعطيله بطريقة أو بأخرى سيكون له الأثر الخالد في عملية التقريب والتجميع والتوحيد خصوصاً إذا علمنا أن السواد الأعظم من المسلمين هم أشاعرة مما يجعل من ذلك سبباً في قبول دور جديد للأزهر الشريف.
سابعاً: القاسم المشترك
إن التصوف الراشد الحصيف هو الأقدر على التجميع كونه يحمل القواسم المشتركة بين المذاهب، فهو من أهل السنة والجماعة من جهة وفي الوقت نفسه هو المحب المقدر لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون استثناء، وهو الذي يلتقي أتباعه أكثر من غيرهم على حب آل البيت الكرام من جهة أخرى. فهم بذلك يحملون ورقة مشتركة بين أهل السنة والشيعة المتبصرة.
ثامناً: محاربة الخرافات والممارسات الخاطئة
مما هو معلوم أن التقويم إذا جاء من الغير فإنه يقابل بالرفض القاطع. لذلك أرى أن على علماء التصوف أنفسهم أن يقاوموا تلك المخالفات التي تكون من بعض العوام والتي هي نتجية جهل مطبق بأحكام الشرع منها ما يكون عند الأضرحة والمقامات من أخطاء دافعها الجهل لا الكفر، وتبصير عوام التصوف بحقيقته الطيبة، وبذلك يكون الإصلاح من داخل الصف أشمل وأعم وأقدر، مما يمهد لحركة تقريبية حقيقية.
إن الصوفي الراشد وقّافٌ عند حدود الشريعة مهذب لنفسه وأخلاقه وهذه هي صوفية الصحابة والسلف الصالح وتلك هي حياة المجتمع وروحه وزهرته النضرة. والصوفي الجاهل منحرف عن الشريعة متظاهر بما ليس فيه وهو علة في المجتمع ومبعث انحراف الإخلاق فيه.
خطوات أولية مقترحة
 وفي ختام هذا البحث وفي ضوء ما أسلفنا فإن هناك خطوات عملية نرى أنه لابد من اتخاذها وعلى وجه السرعة إذا أردنا للتقريب بين المدارس الإسلامية أن يتحقق على الصعيد العملي. 
الخطوة الأولى:
توسيع باب الحوار بمختلف الوسائل بين علماء المدارس الإسلامية المختلفة بلا استثناء وعلى أساس الجوامع المشتركة التي أشرنا إليها. 
الخطوة الثانية:
 عقد مؤتمر بعيد عن الأجواء الرسمية والأغراض السياسية يحضره ممثلون عن مختلف المدارس الإسلامية وخاصة من علماء التقريب للخروج بقرارات وتوصيات وفتاوى تتعلق بالمسائل مثار البحث ومن أبرزها:
1.   إتخاذ موقف ملزم لوضع حد لظاهرة التكفير.
2.  أن يتبنى علماء الشيعة موقفاً واضحاً يتم تبليغه لأتباعهم لتحريم الطعن بالصحابة وبعض نساء الرسول صلى الله عليه وسلم.
3. أن يتبنى علماء السنة موقفاً واضحاً يتم تبليغه لأتباعهم بضرورة احترام آل البيت وعلمائهم ومنع الإساءة إلى إخواننا الشيعة بأي صورة من الصور.
4. التأكيد على الدور التاريخي الذي قام به التصوف في التقريب بين السنة والشيعة في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي وأهليته لمواصلة هذا الدور والتفريق بين التصوف الحقيقي الملتزم بالكتاب والسنة وماشابه من سلوكيات لا تمت له بصلة.
5. التأكيد على رفض إدعاء أي طرف بأنه وحده هو الذي يمثل الإسلام أو أنه هو الطرف الناجي وحده وأن الأمة كلها أمة مرحومة واحدة بمختلف مدارسها ومذاهبها.
6.   تشكيل هيئة متابعة دائمة لرصد أوجه الإختلاف واتخاذ القرارات بشأنها على قاعدة الأغلبية.
7. التأكيد على استقلالية هيئات العلماء المعنية بالتقريب عن الحكومات أو الأنظمة مهما كانت توجهاتها وغاياتها.
خاتمة
       بهذا الفهم وبجهد العلماء الصادقين يمكن للمسلمين أن يجددوا أمر دينهم في هذا الزمان وأن يوقفوا الهجمة الشرسة التي يتعرضون لها. وفي خاتمة بحثي هذا فإنني أوجه صرخة تخرج من قلب موجوع، إلى العلماء والأدباء والخطباء والدعاة وأساتذة الجامعات وطلاب العلم وكل مخلص حريص على إسلامنا العظيم أن اتقوا الله في المسلمين واتقوا الله في الإسلام، فالهجمة كبيرة ولا خلاص إلا بوحدة الصف واجتماع الكلمة وسعة الصدر والحلم وقبول الآخر والتماس العذر له وإن كان مخطئاً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعل عملي هذا خالصاً لوجهك الكريم، اللهم آمين.  
المراجع
1. القرآن الكريم
2. تفسير القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن )
3. تفسير المنار
4. صحيح البخاري
5. صحيح مسلم
6. سنن النسائي
7. سنن أبو داود
8. مسند الحاكم
9. سنن البيهقي
10. سنن ابن عساكر
11. مسند الطبراني ( الجامع الصغير )
12. مسند الإمام أحمد
13. إحياء علوم الدين
14. مجلة التقريب
15. ديوان الشافعي
16. علي بن أبي طالب لمحمد رضا
17. الإمام مالك لأبي زهرة
18. إعتقادات فرق المسلمين والمشركين للفخر الرازي
19. مجموع الفتاروى لابن تيمية
20. بحوث مؤتمر التقريب / البحرين
21. موقع الوحدة على الإنترنت
22. موقع المؤتمر العالمي للتقريب
23. موقع الدكتور سعيد رمضان البوطي على الإنترنت
24. موقع الدكتور يوسف القرضاوي على الإنترنت
25. كتاب الدلالة النورانية للمؤلف
_____________________________________
[1]: إرجع إلى كتابي الدلالة النورانية.
[2]: الأعراف 119
[3]: المائدة 27.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يشرفني طرح أرائكم سادتي

حقيقة صوفية حضرموت