منتدى الحوار الاسلامي

الثلاثاء، 20 أبريل 2010

تبرئة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان من طعون جهلة الزمان


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وممن لم ينخدع بتمويه أحداث الأسنان سفهاء الأحلام الذين يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم, وبعد؛
تبرئة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان من طعون جهلة الزمان
أولاً
]أبو حنيفة ورميه بالإرجاء[
قد يظن من لا علم له - حين يرى في (( ميزان الاعتدال )) و (( تهذيب الكمال ) و (( تهذيب التهذيب )) و (( تقريب التهذيب )) وغيرها من كتب الفن في حق كثير من الرواة: الطعن بالإرجاء عن أئمة النقد الأثبات، حيث يقولون: رُمِيَ بالإرجاء، كان مرجئاً، أو نحو ذلك من عباراتهم – كونهم خارجين من أهل السنة والجماعة، داخلين في فِرَق الضلالة، مجروحين بالبدعة الاعتقادية، معدودين من الفرق المرجئة الضالَّة.



ومن هنا طعن كثيرٌ منهم على الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه وصاحبيه وشيوخه! لوجود إطلاق الإرجاء عليهم في كتب من يُعتمد على نقلهم. ومنشأ ظَنّهم: غفلتُهم عن أحد قسمي الإرجاء، وسرعة انتقال ذهنهم إلى الإرجاء الذي هو ضلال عند العلماء.
]فصل: في أقسام الإرجاء[
في ( تهذيب الكمال ) للحافظ المِزِّي – مخطوط – في ترجمة العبد الصالح الجليل الثقة
( إبراهيم بن طهمان الخراساني ثم المكي )، المتوفى سنة 168هـ ، وروى حديثه الستَّة في كتبهم، قد جاء فيه ما يلي:
(( قال أبو الصَّلْت عبد السلام بن صالح الهروي: سمعتُ سفيان بن عيينة – في مكة – يقول: ما قَدِمَ علينا خراساني أفضل من أبي رجاء عبد الله بن واقد الهروي، قلتُ له: فإبراهيم بن طهمان؟ قال: كان ذلك مرجئاً.
قال أبو الصَّلْت: لم يكن إرجاؤهم هذا المذهب الخبيث: إن الإيمان قول بلا عمل، وإن ترك العمل لا يضر بالإيمان!، بل كان إرجاؤهم أنَّهم يرجون لأهل الكبائر الغفران، ردَّاً على الخوارج وغيرهم؛ الذين يكفرون النَّاس بالذنوب. وكانوا يَرْجُون ولا يُكفِّرون بالذنوب، ونحن كذلك )). انتهى
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( هدي الساري ) ج2ص179:
(( ... فالإرجاء بمعنى التأخير، وهو عندهم على قسمين: منهم من أراد به تأخيرَ القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتين اللتين تقاتلوا بعد عثمان. ومنهم من أراد تأخير القول في الحكم على من أتى الكبائرَ وتركَ الفرائضَ بالنَّار، لأن الإيمان عندهم الإقرار والاعتقاد، ولا يضرُّ ترك العمل مع ذلك )). انتهى
قال العلامة المحدِّث ظفر أحمد التهانوي رحمه الله تعالى في ( قواعد علوم الحديث ) ص233، بعد نقله لكلام الحافظ ابن حجر المذكور:
(( ولا يخفى أن الإرجاء بالمعنى الأول ليس من الضلالة في شيء، بل هو – والله – الورع والاحتياط، والسكوت عمَّا جرى في الصحابة وشَجَر بينهم أولى، فليس كل ن أُطْلِقَ عليه الإرجاء متهماً في دينه، وخارجاً عن السُّنَّة، بل لا بد من الفحص عن حاله: فإن كان أُطلق عليه لإرجائه – أي تأخيره وتفويضه – أمرَ الصحابة الذين تقاتلوا فيما بينهم إلى الله، توقُّفِه عن تصويب إحدى الطائفتين: فهو من أهل السُّنَّة، ومن حزب الله الورعين حتماً. وإن أُطْلِقَ عليه الإرجاء لقوله بعدم إضرار المعاصي فهو الذي يُتَّهم في دينه )). انتهى
وقال الإمام محمد بن عبد الكريم الشَّهْرَسْتانيّ المتوفى سنة 548 أو 549 هـ - والأول أصح - ، في كتابه ( المِلَلْ والنِّحل ) ج1ص125 عند ذكر فرق الضلالة:
(( ومن ذلك: المرجئة، والإرجاء على معنيين:
أحدُهما: التأخيرُ كما في قوله تعالى:] قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ [ أي أمهِلْه.
والثاني: إِعطاءُ الرجاء.
أما إطلاقُ اسم المُرْجِئة على الجماعة بالمعنى الأول صحيح، لأنهم كانوا يُؤخِّرون العمَل عن النية والاعتقاد.
وأما بالمعنى الثاني فظاهر، فإنهم كانوا يقولون: لا يضرُّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفعُ مع الكفر طاعة.
وقيل: الإرجاء: تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يُقْضَى عليه بحكمٍ مَّا في الدنيا؛ من كونه من أهل الجنة أو النار. فعلى هذا المرجئة والوعيديةُ فرقتان متقابلتان.
وقيل: الإرجاء: تأخيرُ عليّ رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة. فعلى هذا: المرجئةُ والشيعةُ مُتقابلتان.
والمرجئة أصناف أربعة: مُرجئة الخوارج، ومُرجئة القدرية، ومُرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة )). انتهى
ثم ذكر الشهرستاني فِرَق المرجئة الخالصة مع ذكر معتقداتهم ومُزخرفاتهم:
كالثَّوْبَانِيَّةِ: الذين زعموا أن الإيمان: هو المعرفة والإقرار بالله تعالى وبرسله وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله.
والتُّوْمَنِيَّةِ: أصحاب أبي معاذ التُّوْمَني الذي يزعم أن الإيمان هو ما عَصَمَ من الكفر، وهو اسمٌ لخصالٍ إذا تركها التاركُ كَفَر، وهي المعرفة، والتصديق، والمحبَّة، والإخلاص، والإقرار بما جاء به الرسول.
والصَّالحِيَّة: أصحاب صالح بن عمرو، القائلين: بأن الإيمان هو المعرفة بالله على الإطلاق، والقول: بثالثِ ثلاثةٍ ليس بكفْ، ويصح الإيمان مع جحد الرسول، والصلاة وغيرُها ليست بعبادة، إنما العبادة معرفة الله.
واليُونُسِيَّةِ: أصحاب يونس بن عون النُّميري، زعم أن الإيمان هو المعرف بالله، والخضوع له، وترك الاستكبار عليه، والمحبَّة بالقلب، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن، وما سوى ذلك من الطاعات فليس من الإيمان، ولا يضرُّ تركُها حقيقةَ الإيمان، ولا يُعذَّبُ على ذلك، وقال رئيسُهم يونُس النُّمَيري: إنَّ إبليس لعنه الله كان عارفاً بالله وحده، غيرَ أنَّه أَبَى واستكبر فكَفَر باستكباره.
والعُبَيْديَّةِ: أصحاب عُبَيْدٍ المُكَتِّبِ، القائل: بأنَّ ما دون الشرك مغفورٌ لا محلة.
والغسانيَّةِ: أصحابِ غسَّان بن أبانٍ الكوفي، الزاعمِ أنَّ الإيمان المعرفة بالله ورسوله، والإقرارُ بما أنزل الله وبما جاء به الرسول، وأنَّه لو قال قائلٌ: أَعْلَمُ أنَّ الله فَرَضَ الحجَّ إلى الكعبة، غيرَ أني لا أَدري أَين الكعبةُ ولعلَّها في الهند؟ كان مؤمناً.
فهذه فِرَقُ المرجئة، وضلالاتُهم، وليُطلبْ تفصيلُ ذلك من كُتب علم الكلام المشتملة على ذكر مقالاتهم.
]فصل: في تحقيق المقال بأن هناك إرجاء حق وإرجاء ضلال وأن أبا حنيفة من أهل مشرب المنهج العذْب الزُلال t [
والذي يجب علمُهُ على العالِم المشتغِلِ بكتب التواريخ وأسماء الرجال: أنَّ الإرجاء يُطلق على قسمين:
أحدُهما: الإرجاء الذي هو ضلالٌ، وهو الذي مرَّ ذكره آنفاً.
وثانيهما: الإرجاء الذي ليس بضلال، ولا يكون صاحبُهُ عن أهل السنَّة والجماعة خارجاً، ولهذا ذكروا أنَّ المرجئة فِرقتان، مرجئة ضلال، ومرجئة أهل السُنَّة، وأبو حنيفة وتلامذته وشيوخه وغيرُهم من الرواة الأثبات إنما عُدُّوا مِن مُرْجِئة أهل السُنَّة، لا من مرجئة الضلالة.
قال الإمام الشهرستاني عند ذكر الغسَّانيَّة في ( المِلَل والنحل )ج1ص126:
(( ومِن العَجَب أنَّ غسَّان كان يحكي عن أبي حنيفة مثلَ مذهبه ويَعُدُّه من المُرْجئة ! ولعلَّه كذب عليه؟ ولَعَمْري كان يُقالُ لأبي حنيفة وأصحابه: مُرْجِئةُ السُّنَّة.
ولعلَّ السَبَبَ فيه أنه لمَّا كان يقول: الإيمانُ هو التصديقُ بالقلب، وهو يزيد وينقص، ظنُّوا أنهُ يُؤخِّرُ العمل عن الإيمان.
والرجل مع تَبَحُّرِهِ بالعلم كيف يفتي بترك العمل ؟!
وله سبَبٌ آخر، وهو أنَّه كان يخالف القَدَريةَ والمعتزلةَ الذين ظهروا في الصدر الأول، والمعتزلةُ كانوا يُلقِّبون كلَّ مَنْ خالَفَهم في القَدَر مرجئاً. وكذلك الوعيديَّة من الخوارج، فلا يَبْعُدُ أنَّ اللقب إنما لَزِمه من فريقي المعتزلة والخوارج )). انتهى
وفي ( الطريقة المحمديَّة ) للشيخ محمد بن علي البركلي، المتوفَّى 981هـ :
(( أمَّا المُرْجئة: فإنَّ ضرباً منهم يقولون: نُرجيءُ أمرَ المؤمنين والكافرين إلى الله، فيقولون: الأمرُ فيهم موكولٌ إلى الله، يَغْفِرُ لمن يشاء من المؤمنين والكافرين، ويُعذِّبُ من يشاء، فهؤلاء ضربٌ من المرجئة، وهم كفار.
وكذلك الضرب الآخر منهم، الذين يقولون: حَسناتُنا مُتقبَّلةٌ قطعاً، وسيئاتُنا مغفورة، والأعمال ليست بفرائض، ولا يُقرُّون بفرائضِ الصلاة والزكاة والصيام وسائر الفرائض، ويقولون: هذه كلُّها فضائل، فهؤلاء أيضاً كفَّار.
وأمَّا المرجئةُ: الذين يقولون: لا نتولَّى المؤمنين المذنبين، ولا نتبرَّأ منهم، فهؤلاء المبتدِعة، ولا تُخرجهم بِدعتُهم من الإيمان إلى الكفر.
وأما المرجئة: الذين يقولون: نُرجيء أمرَ المؤمنين – ولو فُسَّاقً – إلى الله، فلا نُنزلهم جنةً ولا ناراً، ولا نَتَبَرَّأُ منهم، ونتولاَّهم في الدين، فهم على السُّنَّةِ، فالزَمْ قولهم وخُذْ به )). انتهى
قال الشيخ العارف بالله عبد الغني النابلسي رضي الله عنه في ( الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية ) ج1ص309 تعليقاً على قوله (( فالزمْ قولَهم وخُذْ به ))، قال:
(( فإِنه حقٌّ، وهم الذين أخَذوا بقوله تعالى: :] إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [] وتسمَّوْا بقوله تعالى: :] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [
)). انتهى
وفي ( شرح المقاصد ) ج2ص238 للإمام التفتزاني المتوفى سنة 792 هـ :
(( اشتَهَرَ مِن مذهب المعتزلة أن صاحب الكبيرة بدون التوبة مخلَّد في النار وإن عاش على الإيمان والطاعة مئةَ سنة، ولم يُفرِّقوا بين أن تكون الكبيرةُ واحدةً أو كثيرةً، واقعةً قبل الطاعة أو بعدها أو بينها، وجَعلوا عدمَ القطع بالعقاب، وتفويضَ الأمر إلى الله – يغفر إن شاء ويُعَذِّبُ إن شاء، على ما هو مذهبُ أهل الحق – إرْجاءً بمعنى أنَّهُ تأخيرٌ للأمر وعدمُ جزمٍ بالعقاب والثواب، وبهذا الاعتبار جُعِلَ أبو حنيفة وغيرُه مِن المرجئة. )) انتهى
وفي ( شرح الفقه الأكبر ) المسمَّى بـ ( المنهج الأظهر ) وفي "كشف الظنون" و " عقود الجوهر" تسميته ( منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر ) ص67 للعلامة علي القاري المكي:
(( ثم اعلم أن القُونَوِيَّ ذَكَرَ أنَّ أبا حنيفة كان يُسمَّى مُرجِئاً لتأخيره أمرَ صاحبِ الكبيرة إلى مشيئة الله، والإرجاء التأخير. انتهى
وفي ( التمهيد ) لأبي شكور السَّالميّ: ثم المُرجئة على نوعين:
مرجئة مرحومة، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومرجئة ملعونة، وهم الذين يقولون بأنَّ المعصية لا تضرُّ والعاصيَ لا يُعاقَب.
ورُوي عن عثمان البَتِّي أنَّه كَتبَ إلى أبي حنيفة وقال: أنتم مُرْجِئة. فأجابه: بأن المُرجئة على ضربين:
مرجئة ملعونة، وأنا بريء منهم. ومرجئة مرحومة، وأنا منهم.
وكَتَب فيه بأن الأنبياء كانوا كذلك ألا ترى إلى قول عيسى قال ] إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ )). انتهى
] فصل: في تحقيق المقال بأن هناك إرجاء حق وإرجاء ضلال وأن أبا حنيفة من أهل مشرب المنهج العذْب الزُلال t[
والذي يجب علمُهُ على العالِم المشتغِلِ بكتب التواريخ وأسماء الرجال: أنَّ الإرجاء يُطلق على قسمين:
أحدُهما: الإرجاء الذي هو ضلالٌ، وهو الذي مرَّ ذكره آنفاً.
وثانيهما: الإرجاء الذي ليس بضلال، ولا يكون صاحبُهُ عن أهل السنَّة والجماعة خارجاً، ولهذا ذكروا أنَّ المرجئة فِرقتان، مرجئة ضلال، ومرجئة أهل السُنَّة، وأبو حنيفة وتلامذته وشيوخه وغيرُهم من الرواة الأثبات إنما عُدُّوا مِن مُرْجِئة أهل السُنَّة، لا من مرجئة الضلالة.
قال الإمام الشهرستاني عند ذكر الغسَّانيَّة في ( المِلَل والنحل )ج1ص126:
(( ومِن العَجَب أنَّ غسَّان كان يحكي عن أبي حنيفة مثلَ مذهبه ويَعُدُّه من المُرْجئة ! ولعلَّه كذب عليه؟ ولَعَمْري كان يُقالُ لأبي حنيفة وأصحابه: مُرْجِئةُ السُّنَّة.
ولعلَّ السَبَبَ فيه أنه لمَّا كان يقول: الإيمانُ هو التصديقُ بالقلب، وهو يزيد وينقص، ظنُّوا أنهُ يُؤخِّرُ العمل عن الإيمان.
والرجل مع تَبَحُّرِهِ بالعلم كيف يفتي بترك العمل ؟!
وله سبَبٌ آخر، وهو أنَّه كان يخالف القَدَريةَ والمعتزلةَ الذين ظهروا في الصدر الأول، والمعتزلةُ كانوا يُلقِّبون كلَّ مَنْ خالَفَهم في القَدَر مرجئاً. وكذلك الوعيديَّة من الخوارج، فلا يَبْعُدُ أنَّ اللقب إنما لَزِمه من فريقي المعتزلة والخوارج )). انتهى
وفي ( الطريقة المحمديَّة ) للشيخ محمد بن علي البركلي، المتوفَّى 981هـ :
(( أمَّا المُرْجئة: فإنَّ ضرباً منهم يقولون: نُرجيءُ أمرَ المؤمنين والكافرين إلى الله، فيقولون: الأمرُ فيهم موكولٌ إلى الله، يَغْفِرُ لمن يشاء من المؤمنين والكافرين، ويُعذِّبُ من يشاء، فهؤلاء ضربٌ من المرجئة، وهم كفار.
وكذلك الضرب الآخر منهم، الذين يقولون: حَسناتُنا مُتقبَّلةٌ قطعاً، وسيئاتُنا مغفورة، والأعمال ليست بفرائض، ولا يُقرُّون بفرائضِ الصلاة والزكاة والصيام وسائر الفرائض، ويقولون: هذه كلُّها فضائل، فهؤلاء أيضاً كفَّار.
وأمَّا المرجئةُ: الذين يقولون: لا نتولَّى المؤمنين المذنبين، ولا نتبرَّأ منهم، فهؤلاء المبتدِعة، ولا تُخرجهم بِدعتُهم من الإيمان إلى الكفر.
وأما المرجئة: الذين يقولون: نُرجيء أمرَ المؤمنين – ولو فُسَّاقً – إلى الله، فلا نُنزلهم جنةً ولا ناراً، ولا نَتَبَرَّأُ منهم، ونتولاَّهم في الدين، فهم على السُّنَّةِ، فالزَمْ قولهم وخُذْ به )). انتهى
قال الشيخ العارف بالله عبد الغني النابلسي رضي الله عنه في ( الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية ) ج1ص309 تعليقاً على قوله (( فالزمْ قولَهم وخُذْ به ))، قال:
(( فإِنه حقٌّ، وهم الذين أخَذوا بقوله تعالى: ] إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [ وتسمَّوْا بقوله تعالى:
] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [ )). انتهى
وفي ( شرح المقاصد ) ج2ص238 للإمام التفتزاني المتوفى سنة 792 هـ :
(( اشتَهَرَ مِن مذهب المعتزلة أن صاحب الكبيرة بدون التوبة مخلَّد في النار وإن عاش على الإيمان والطاعة مئةَ سنة، ولم يُفرِّقوا بين أن تكون الكبيرةُ واحدةً أو كثيرةً، واقعةً قبل الطاعة أو بعدها أو بينها، وجَعلوا عدمَ القطع بالعقاب، وتفويضَ الأمر إلى الله – يغفر إن شاء ويُعَذِّبُ إن شاء، على ما هو مذهبُ أهل الحق – إرْجاءً بمعنى أنَّهُ تأخيرٌ للأمر وعدمُ جزمٍ بالعقاب والثواب، وبهذا الاعتبار جُعِلَ أبو حنيفة وغيرُه مِن المرجئة. )) انتهى
وفي ( شرح الفقه الأكبر ) المسمَّى بـ ( المنهج الأظهر ) وفي "كشف الظنون" و " عقود الجوهر" تسميته ( منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر ) ص67 للعلامة علي القاري المكي:
(( ثم اعلم أن القُونَوِيَّ ذَكَرَ أنَّ أبا حنيفة كان يُسمَّى مُرجِئاً لتأخيره أمرَ صاحبِ الكبيرة إلى مشيئة الله، والإرجاء التأخير. انتهى
وفي ( التمهيد ) لأبي شكور السَّالميّ: ثم المُرجئة على نوعين:
مرجئة مرحومة، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومرجئة ملعونة، وهم الذين يقولون بأنَّ المعصية لا تضرُّ والعاصيَ لا يُعاقَب.
ورُوي عن عثمان البَتِّي أنَّه كَتبَ إلى أبي حنيفة وقال: أنتم مُرْجِئة. فأجابه: بأن المُرجئة على ضربين:
مرجئة ملعونة، وأنا بريء منهم. ومرجئة مرحومة، وأنا منهم.
وكَتَب فيه بأن الأنبياء كانوا كذلك ألا ترى إلى قول عيسى قال] إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [)). انتهى
وقال الإمام الفقيه ابن حجر الهيتمي المكي رحمه الله المتوفى سنة 975 هـ في الفصل السابع والثلاثين من كتابه ( الخيرات الحسان في مناقب النعمان ) ص73:
(( قد عدَّ جماعة الإمام أباحنيفة من المُرجئة، وليس هذا الكلام على حقيقته.
أما أولاً: فقال شارح ( المواقف ): كان غَسَّان المرجيء ينقلُ الإرجاءَ عن أبي حنيفة ويَعُدُّه من المرجئة. وهو افتراء عليه، قَصَدَ به غَسَّانُ ترويجَ مذهبِه بنسبته إلى هذا الإمام الجليل.
وأما ثانياً: فقد قال الآمِدِيّ: إنَّ المعتزلة كانوا في الصدر الأول يُلَقِّبون مَنْ خالفَهم في القَدَر مُرْجِئاً، أو لأنه لمَّا قال: الإيمانُ لا يزيدُ ولا ينقص، ظُّنَّ به الإرجاءُ بتأخير العمل عن الإيمان )). انتهى
] خلاصة المرام في هذا المقام [
أن الإرجاء:
قد يُطلقُ: على أهل السنَّة والجماعة ( مِن مخالفيهم المعتزلةِ: الزاعمين بالخلودِ الناريّ لصاحبِ الكبيرة ).
وقد يُطلقُ: على الأئمةِ القائلين بأن الأعمالَ ليست بداخلةٍ في الإيمان، وبعدم الزيادة فيه والنقصان، وهو مذهبُ أبي حنيفة وأتباعِه مِنْ جانبِ المحدِّثين القائلين بالزيادة والنقصان، وبدخولِ الأعمال في الإيمان.
وهذا النِّزاع وإن كان لفظياً كما حقَّقه المحققون من الأولين والآخرين، لكنه لمَّا طال وآلَ الأمرُ إلى بسط كلام الفريقين من المتقدِّمين والمتأخِّرين، أدَّى ذلك إلى أن أطلقوا الإرجاء على مخالفيهم وشنَّعُوا بذلك عليهم، وهو ليس بطعنٍ في الحقيقة على ما لا يخفى على مَهَرة الشريعة.
وإذا انتقَشَ هذا كلُّه على صحيفة خاطرك، فاعرِفْ أنه لا تنبغي المبادرة – نظراً إلى قول أحدٍ من أئمة النقد وإن كان من أجلَّة المحدِّثين في حقِّ أحَدٍ من الراوين: إنه من المُرْجِئِين – بإطلاق القولِ بكونه من فِرَق الضلالة، وجَرْحِهِ بالبدعة الاعتقادية، بل الواجبُ التنقيح، والحكمُ بما يظهر بالوجه الرجيح.
نعم إن دلَّت قرينةٌ حاليَّةٌ أو مقاليَّةٌ على أن مراد الجارح بالإرجاء ما هو ضلالة، فلا بأس بالحكم بكونه ذا ضلالة، وإلا فيُحتملُ أن يكون إطلاقُ ذلك القولِ على ذلك الراوي من معتزليٍّ، ومنه أَخَذَ ذلك الجارحُ، واعتمد على اشتهاره من دون وقوف على الواضع، ويُحتملُ أن يكون الراوي ممن لا يقول بزيادة الإيمان ونقصانه، ولا بدخولِ العمل في حقيقته، فأَطلَق عليه الجارحُ المحدِّثُ الإرجاءَ تبعاً لأهل طريقته.
ويشهد لم ذكرنا ما في ( لسان الميزان ) للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله ج5ص121 في ترجمة " محمد بن الحسن " تلميذ الإمام أبي حنيفة:
(( نَقَلَ ابنُ عَدِيّ عن إسحاق بن راهويه، سمعتُ يحيى بنَ آدم يقول: كان شَرِيكٌ لا يُجيز شهادة المُرْجئة، فشهد عنده محمدُ بن الحسَن فردَّ شهادته ! فقيل له في ذلك ؟! فقال: أنا لا أُجيزُ شهادة من يقول: الصلاة ليست من الإيمان )). انتهى
فإنَّ هذا صريحٌ في أنه إنما أَطلق على ( محمد ) الإرجاء، لكونه لا يرى الصلاة جزءاً من حقيقة الإيمان، ومن المعلوم أنَّ هذا ليس بضلال وطغيان.
وكذا قول الحافظ الذهبي رحمه الله في ( الميزان ) ج3ص163 في ترجمة " مِسْعَر بن كِدَام " – بعد ذكرِ وَثَاقَتِه - :
(( ولا عبرة بقول السُّليماني - المتوفى سنة 404هـ - : كان من المُرجئة: مِسْعَرٌ، وحمادُ بن أبي سُليمان، والنعمانُ، وعمروُ بن مُرَّة، وعبد العزيز بن أبي رُوَّاد، وأبو معاوية، وعُمَر بن ذَرّ ... وسَرَدَ جماعةً.
قلتُ: الإرجاءُ مذهبٌ لعدةٍ من جِلَّة العلماء، ولا ينبغي التحاملُ على قائله )). انتهى
قال الشيخ العلامة المحدث المحقق عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله مُعلِّقاً على قول الحافظ الذهبي ( الإرجاءُ مذهبٌ لعدةٍ من جِلَّة العلماء ... ) ما نصه:
(( قلتُ: مِن هؤلاء العلماء الأجلَّة - على سبيل المثال- :
1- الحافظ الكبير الإمام ( إبراهيم بن يوسف الباهلي البلخي، المعروف بالماكِيَاني صاحب الرأي ) شيخ النسائي وهذه الطبقة، توفي سنة 239. قال الذهبي في (الميزان)ج1ص76، في ترجمته:
" لزِمَ أبا يوسف حتى بَرَع - في الفقه -، وعنه النسائي وثَّقَه، وقال أبو حاتم: لا يُشتَغلُ به. قلتُ: هذا تحامل لأجل الإرجاء الذي فيه ! ".
وزاد ابن حجر في ( تهذيب التهذيب ) ج1ص184 في ترجمته: " قال الدارقطني: ذكرته لعَلِيَّك الرازي - هو علي بن سعيد - ، فقال: ثقة ثقة" .
2- الحافظ الثقة الثبت ( أبو معاوية الضرير محمد بن خَازِم الكوفي )، أَخَذ عنه يحيى القطان وهو من أقرانه، وهو شيخُ علي بن المديني، وابن معين، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي الوليد الطيالسي، وخلقٍ عظيم، توفي سنة 195. قال الذهبي في (الميزان) ج4ص575، في ترجمته:
" أحد الأعلام الثقات، لم يتعرَّض إليه أحد ". ثم ذكر عن العجلي ويعقوب بن شيبة: كان يرى الإرجاء، وعن داود: كان مرجئاً.
3- الثقة المتقِن ( محمد بن قيس الأسدي الكوفي )، شيخ شعبة، و وكيع، وأبي نُعَيم -الفضل بن دُكَيْن -، والثوري وهذه الطبقة. جاء في ( تاريخ ابن معين ) في الفقرة 2954قولُ أبي العباس الدُّوري:
" سمعتُ يحيى - بنَ معين – يقول: قال أبو نُعَيم: محمد بن قيس مرجيء. قال يحيى: كان أبو نعيم إذا قال في إنسان: إنَّه مرجيء، فهو من خيار النَّاس ". انتهى
قلتُ: وهذه فائدة مهمَّة. وتَرى غَمْزَ الراوي بالإرجاء في كتب الرجال كثيراً، فلا تعتدَّ به جرحاً، لما علمت )). انتهى ما علَّقه الشيخ عبد الفتَّاح رحمة الله عليه
وبالعموم قال الشهرستاني في ( المِلَل والنِّحل ) ج1ص130 في آخر بحث المُرْجِئة:
(( رجالُ المُرْجِئة - كما نُقِلَ – الحسَنُ بنُ محمد بن علي بن أبي طالب، وسعيد بن جُبَير، وطَلْقُ بنُ حَبيب، وعمرُو بن مُرَّة، ومُحارِبُ بن دِثَار، ومُقَاتِلُ بن سليمان، وذرٌّ، وعُمَر بن ذَرّ، وحمَّادُ بن أبي سُليمان، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمَّدُ بن الحسَن، وقُدَيْدُ بنُ جعفر.
وهؤلاء كلهم أئمةُ الحديث، ولم يُكفِّروا أصحابَ الكبائر بالكبيرة، ولم يَحْكمُوا بتخليدهم في النار، خلافاً للخوارجِ والقَدَريَّة )). انتهى
] مسك الختام [
قال الإمام المحقق الكوثري رحمه الله تعالى في كتابه ( تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب ) ص44-45 :
(( كان في زمن أبي حنيفة وبعده أُناس صالحون يعتقدون أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ويرمون بالإرجاء من يرى الإيمان: العَقد والكلمة. مع أنه هو الحقُّ الصُّراح بالنظر إلى حُجج الشرع، قال الله تعالى:] وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ] الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقد خيره وشره [ أخرجه مسلم عن عمر ابن الخطاب، وعليه جمهور أهل السنة.
وهؤلاء الصالحون باعتقادهم ذلك الاعتقاد: أصبحوا على موافقة المعتزلة أو الخوارج حتماً؛ إن كانوا يعدُّون خلاف اعتقادهم هذا بدعة وضلالة، لأن الإخلال بعمل من الأعمال - هو ركنُ الإيمان في نظرهم – يكون إخلالاً بالإيمان، فيكون من أخلَّ بعملٍ خارجاً من الإيمان إما داخلاً في الكفر كما يقوله الخوارج، وإما غيرَ داخلٍ فيه بل في منزلةٍ بين المنزلتين: الكفر والإيمان، كما هو مذهب المعتزلة.
وهم - أي أولئك الناس الصالحون – من أشد الناس تبرؤاً من هذين الفريقين، فإذا تبرؤا أيضاً مما كان عليه أبو حنيفة وأصحابهُ وباقي أئمة هذا الشأن، يبقى كلامُهم متهافتاً غير مفهوم، وأما إذا عَدُّوا العمل من كمال الإيمان فقط فلا يبقى وجهٌ للتنابُزِ والتنابُذ
- تنابزوا: تَعَايَروا بالألقاب. وتنابَذوا: اختلفوا وتفرَّقوا عن عداوة - لكن تشددهم هذا التشدد يدل على أنهم لا يَعدّون العمَل من كمال الإيمان فحسب، بل يَعُدُّونه ركناً منه أصلياً، ونتيجةُ ذلك كما ترى.
ومن الغريب أن بعض من يَعُدُّونه من أمراء المؤمنين في الحديث يتبجَّحُ قائلاً: إني لم أُخْرِج في كتابي عمن لا يَرى أن الإيمان قولٌ وعمل يزيد وينقص، مع أنه أَخرج عن غُلاةِ الخوارج ونحوهم في كتابه، وهو يَدرِي أن الحديث القائل بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص: غير ثابت عند النقاد . ولا التفات إلى المتساهلين ممن لا يفرقون بين الشمال واليمين. فماذا بعد ظهور الحجَّة ووضوح المسألة على من يَرى إرجاءَ العمل من أن يكون ركناً أصلياً للإيمان ؟ وعليه الكتابُ والسنة وجمهور الصحابة وجميع علماء هل السنة الذين يستنكرون قولَ الفريقين الخوارج والمعتزلة.
فإرجاء العمل من أن يكون من أركان الإيمان الأصلية: هو سنَّة.
وأما الإرجاء الذي يُعد بدعة فهو قول من يقول: لا تضر مع الإيمان معصية،
وأصحابنا أبرياء من مثل هذا القول براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام. ولولا مذهب أبي حنيفة وأصحابه في هذه المسألة للزم إكفار جماهير المسلمين غير المعصومين، لإخلالهم بعمل من الأعمال في وقت من الأوقات، وفي ذلك الطامَّة الكبرى)) انتهى كلام الإمام الكوثري رحمه الله
قال الشيخ العلامة أبو غدَّة رحمه الله معلقاً على قول المحقق الكوثري وغيره:
(( وبعد هذا البيان الشافي الذي أفاده شيخنا الكوثري رحمه الله تعالى يتجلى لك واضحاً ما قاله الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه في ( رسالته إلى عثمان البَتِّي ) عالم أهل البصرة، وقد كتب إلى أبي حنيفة: أنه بلغه أنه من المرجئة، فكتب إليه أبو حنيفة رسالة بين فيها أنَّ المضيِّع للعمل لم يكن مضيِّعاً للإيمان، وساقَ الأدلةَ على ذلك، إلى أن قال له أبو حنيفة:
[ أوَلستَ تقول: مؤمنٌ ظالم، ومؤمن مذنب، ومؤمن مُخطئ، ومؤمن عاص، ومؤمن جائر ...( ثم قال ): واعلم أنِّي أقولُ: أهلُ القبلة مؤمنون، لستُ أُخرجهم من الإيمان بتضييع شيء من الفرائض، فمن أطاع الله تعالى في الفرائض كلّها مع الإيمان، كان من أهل الجنَّة عندنا، ومن تَرَك الإيمان والعَمَل، كان كافراً من أهل النَّار، ومن أصابَ الإيمان وضيَّع شيئاً من الفرائض، كان مُؤمناً مُذنباً، وكان للهِ تعالى فيه المشيئةُ إن شاء عذَّبه، وإن شاء غَفَر له، فإن عذَّبه على تضييعه شيئاً فعلى ذنبٍ يُعذِّبه، وإن غَفَر له فذنباً يَغْفِر ...( ثم قال له ): وأما ما ذكرت من إسم المرجئة، فما ذنب قومٍ تكلموا بعدل وسمَّاهم أهل البدع بهذا الاسم ؟! ولكنهم أهل العدل وأهل السنَّة، وإنما هذا اسمٌ سمَّاهم به أهل شنآن ]. كما في ص 37-38 من الرسالة المذكورة )). انتهى تعليق الشيخ أبا غدَّة رحمه الله بزيادة تصرف
قال الشيخ الإمام أنور شاه الكشميري رحمه الله تعالى في كتابه الجليل ( فيض الباري على صحيح البخاري ) ج1ص 53-54:
(( الإيمان عند السلف عبارة عن ثلاثة أشياء: اعتقاد، وقول، وعمل . وقد مرَّ الكلام - يعني في كتابه – على الأوَّلينِ أي التصديق والإقرار، بقي العمل، هل هو جُزءٌ للإيمان أم لا ؟
فالمذاهبُ فيه أربعة، قال الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال أجزاء للإيمان، فالتاركُ للعمل خارجٌ عن الإيمان عندهما، ثم اختلفوا: فالخوارجُ أخرجوه عن الإيمان، وأدخلوه في الكفر، والمعتزلةُ لم يدخلوه في الكفر، بل قالوا بالمنزلةِ بين المنزلتين.
والثالث: مذهبُ المُرجئة، فقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدارُ النجاة هو التصديق فقط، فصار الأوَّلون والمُرجئةُ على طَرَفي نقيض.
والرابع: مذهبُ أهل السنة والجماعة، وهم بينَ بين؛ فقالوا: إن الأعمال أيضاً لا بد منها، لكن تاركها مفسَّق لا مكفَّر، فلم يُشدِّدوا فيها كالخوارج والمعتزلة، ولم يُهوِّنوا أمرها كالمرجئة.
ثم هؤلاء - أي أهل السنة والجماعة – افترقوا فرقتين، فأكثرُ المُحدثين إلى أنَّ الإيمان مركَّب من الأعمال، وإمامنا الأعظم رحمه الله تعالى وأكثرُ الفقهاءِ والمتكلمين إلى أنَّ الأعمال غيرُ داخلة في الإيمان، مع اتفاقهم - جميعاً – على أن فاقِدَ التصديق افر، وفاقِدَ العمل فاسق، فلم يَبق الخلافُ إلا في التعبير، فإن السلف وإن جعلوا الأعمالَ أجزاءً، لكن لا بحيث ينعدم الكل بانعدامها، بل يَبقى الإيمان مع انتفائها.
وإمامُنا - أبو حنيفة – وإن لَم يَجعل الأعمالَ جُزءاً، لكنه اهتمَّ بها، وحرَّض عليها، وجعَلَها أسباباً ساريةً في نماء الإيمان، فلم يَهدرها هَدْرَ المرجئة، إلا أنَّ تعبير المحدِّثين القائلين بجزئية الأعمال، لمَّا كان أبعدَ من المرجئة المنكرين جزئيةَ الأعمال، بخلاف تعبير إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى، فإنه كان أقربَ إليهم من حيث نفيُ جزئية الأعمال: رُمِيَ الحنفيَّة بالإرجاء، وهذا كما تَرى جَوْر علينا، فالله المستعان.
ولو كان الاشتراك - مع المرجئة – بوجهٍ من الوجوه التعبيريَّة كافياً لنسبة الإرجاء إلينا، لَزِمَ نسبةُ الاعتزال إليهم - أي إلى المحدِّثين - ؛ فإنَّهم - أي المعتزلة – قائلون بجزئية الأعمال أيضاً كالمُحدِّثين، ولكن حاشاهم من الاعتزال. وعفا الله عمن تعصَّب ونَسَب إلينا الإرجاء، فإن الدين كلَّه نُصح، لا مُراماةٌ ومنابذةٌ بالألقاب ! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم )). انتهى
وما أحسن قول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله:
(( لو كان كلُّ من ادُّعيَ عليه مذهبٌ من المذاهب الرديئة، ثبتَ عليه ما ادُّعِيَ عليه به، وسقطتْ عدالتُه، وبطلت شهادتُه بذلك: للزم ترْكُ أكثر محدِّثي الأمصار، لأنَّه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يُرغبُ به عنه )). انتهى من ( هدي الساري ) للحافظ ابن حجر ج2ص151، في ترجمة ( عكرمة مولى ابن عباس ).
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

منقول من مواضيع سيدي الداعية الوسطى وقال في اخره
نقلته من كلام الإمام الحافظ اللكنوي والعلامة المحدِّث عبد الفتاح أبا غدَّة رحمهما الله بزيادة ترتيب وتصرف يسير

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يشرفني طرح أرائكم سادتي

حقيقة صوفية حضرموت